(مُلْتَحَداً). التلاوة هي الاتباع أي : اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها ، وتصديق أخباره ، وامتثال أوامره ونواهيه ، فإنه الكتاب الجليل ، الذي لا مبدل لكلماته ، أي : لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها ، وبلوغها من الحسن ، فوق كل غاية (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً). فلكمالها ، استحال عليها التغيير والتبديل ، فلو كانت ناقصة ، لعرض لها ذلك ، أو شيء منه ، وفي هذا ، تعظيم للقرآن ، في ضمنه ، الترغيب على الإقبال عليه. (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي : لن تجد من دون ربك ، ملجأ تلجأ إليه ، ولا معاذا تعوذ به ، فإذا تعين أنه وحده ، الملجأ في كل الأمور ، تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه ، في السراء والضراء ، المفتقر إليه في جميع الأحوال ، المسئول في جميع المطالب.
[٢٨] يأمر تعالى نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وغيره أسوته ، في الأوامر والنواهي ـ أن يصبر نفسه مع المؤمنين العبّاد المنيبين (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي : أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله. فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها ، ففيها الأمر ، بصحبة الأخيار ، ومجاهدة النفس على صحبتهم ، ومخالطتهم وإن كانو فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد ، ما لا يحصى. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي : لا تجاوزهم بصرك ، وترفع عنهم نظرك. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن هذا ضار غير نافع ، وقاطع عن المصالح الدينية. فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا ، فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب ، الرغبة في الآخرة ، فإن زينة الدنيا ، تروق للناظر ، وتسحر القلب ، فيغفل القلب عن ذكر الله ، ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته ، وينفرط أمره ، فيخسر الخسارة الأبدية ، والندامة السرمدية ولهذا قال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) غفل عن الله ، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : صار تبعا لهواه ، حيث ما اشتهت نفسه فعله ، وسعى في إدراكه ، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه ، فهو قد اتخذ إلهه هواه كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) الآية. (وَكانَ أَمْرُهُ) أي : مصالح دينه ودنياه (فُرُطاً) أي : ضائعة معطلة. فهذا قد نهى الله عن طاعته ، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به ، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به. ودلت الآية ، على أن الذي ينبغي أن يطاع ، ويكون إماما للناس ، من امتلأ قلبه بمحبة الله ، وفاض ذلك على لسانه ، فلهج بذكر الله ، واتبع مراضي ربه ، فقدمها على هواه ، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته ، وصلحت أحواله ، واستقامت أفعاله ، ودعا الناس إلى ما منّ الله به عليه. فحقيق بذلك ، أن يتبع ويجعل إماما ، والصبر ، المذكور في هذه الآية ، هو الصبر على طاعة الله ، الذي هو أعلى أنواع الصبر ، وبتمامه يتم باقي الأقسام. وفي الآية ، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار ، لأن الله مدحهم بفعله ، وكل فعل مدح الله فاعله ، دل ذلك على أن الله يحبه ، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به ، ويرغب فيه.
[٢٩] أي : قل للناس يا محمد : هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ). أي : قد تبين الهدى من الضلال ، والرشد من الغي ، وصفات أهل السعادة ، وصفات أهل الشقاوة ، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله ، فإذا بان واتضح ، ولم يبق فيه شبهة. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي : لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين ، بحسب توفيق العبد ، وعدم توفيقه ،