وقد أعطاه الله مشيئة ، بها يقدر على الإيمان والكفر ، والخير والشر فمن آمن ، فقد وفق للصواب ، ومن كفر ، فقد قامت عليه الحجة ، وليس بمكره على الإيمان كما قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ). ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) بالكفر والفسوق والعصيان (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي : سورها المحيط بها. فليس لهم منفذ ، ولا طريق ، ولا مخلص منها ، تصلاهم النار الحامية. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) أن يطلبوا الشراب ، ليطفىء ما نزل بهم من العطش الشديد. (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) أي : كالرصاص المذاب ، أو كعكر الزيت ، من شدة حرارته. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي : فكيف بالأمعاء والبطون ، كما قال تعالى : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١). (بِئْسَ الشَّرابُ) الذي يراد ليطفىء العطش ، ويدفع بعض العذاب ، فيكون زيادة في عذابهم ، وشدة عقابهم. (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) وهذا ذم لحالة النار ، أنها ساءت المحل ، الذي يرتفق به. فإنها ليس فيها ارتفاق ، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق ، الذي لا يفتّر عنهم ساعة ، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير ، ونسيهم الرحيم في العذاب ، كما نسوه.
[٣٠] ثم ذكر الفريق الثاني فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر والقدر ، خيره ، وشره ، وعمل الصالحات ، من الواجبات والمستحبات (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). وإحسان العمل ، أن يريد العبد العمل لوجه الله ، متبعا في ذلك شرع الله. فهذا العمل لا يضيعه الله ، ولا شيئا منه ، بل يحفظه للعاملين ، ويوفيهم من الأجر ، بحسب عملهم وفضله وإحسانه ، وذكر أجرهم بقوله :
[٣١] (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ). أي : أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها ، فأجنّت من فيها ، وكثرت أنهارها ، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة ، والمنازل الرفيعة. وحليتهم فيها ، الذهب ، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس ، وهو الغليظ من الديباج ، والإستبرق ، وهو : ما رق منه. متكئين فيها على الأرائك وهي : السرر المزينة ، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة ، حتى تكون كذلك. وفي اتكائهم على الأرائك ، ما يدل على كمال الراحة ، وزوال النصب والتعب ، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون ، وتمام ذلك ، الخلود الدائم والإقامة الأبدية. فهذه الدار الجليلة (نِعْمَ الثَّوابُ) للعاملين (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) يرتفقون بها ، ويتمتعون بما فيها ، مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من الحبرة والسرور ، والفرح الدائم ، واللذات المتواترة ، والنعم المتوافرة. وأي مرتفق ، أحسن من دار ، أدنى أهلها ، يسير في ملكه ونعيمه ، وقصوره وبساتينه ، ألفي سنة ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم. قد أعطي جميع أمانيه ومطالبه ، وزيد من المطالب ، ما قصرت عنه الأماني. ومع ذلك ، فنعيمهم على الدوام ، متزايد في أوصافه وحسنه. فنسأل الله الكريم ، أن لا يحرمنا خير ما عنده ، من الإحسان ، بشرّ ما عندنا من التقصير والعصيان. ودلت الآية الكريمة ، وما أشبهها ، على أن الحلية ، عامة للذكور والإناث ، كما ورد في الأخبار الصحيحة لأنه أطلقها في قوله : (يُحَلَّوْنَ) وكذلك الحرير ونحوه.
[٣٢ ـ ٣٣] يقول تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله ، والكافر لها ، وما صدر من كل منهما ، من الأقوال والأفعال ، وما حصل بسبب ذلك ، من العقاب العاجل ، والآجل ، والثواب ليعتبروا بحالهما ، ويتعظوا بما حصل عليهما ، وليس معرفة أعيان الرجلين ، وفي أي زمان أو مكان هما ، فيه فائدة أو نتيجة. فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط ، والتعرض لما سوى ذلك ، من التكلف. فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة ، جعل الله له جنتين أي : بساتين حسنة ، من أعناب. (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي : في هاتين الجنتين من كل