(١١٢) ، لكن تعد أعمالهم ، وتحصى ، ويقررون بها ، ويخزون بها على رؤوس الأشهاد ، ثم يعذبون عليها ، ولهذا قال : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) أي : حبوط أعمالهم ، وأنه لا يقام لهم يوم القيامة وزن لحقارتهم وخستهم ، بكفرهم بآيات الله ، واتخاذهم آياته ورسله ، هزوا يستهزئون بها ، ويسخرون منهم ، مع أن الواجب في آيات الله ورسله ، الإيمان التام بها ، والتعظيم لها ، والقيام بها أتم القيام ، وهؤلاء عكسوا القضية ، فانعكس أمرهم ، وتعسوا ، وانتكسوا في العذاب.
[١٠٧] ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم ، بيّن أعمال المؤمنين ومآلهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (حِوَلاً). أي : إن الّذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ، وشمل هذا الوصف جميع الدين ، عقائده ، وأعماله ، أصوله ، وفروعه الظاهرة ، والباطنة ، فهؤلاء ـ على اختلاف طبقاتهم من الإيمان ، والعمل الصالح ـ لهم جنات الفردوس. يحتمل أن المراد بجنات الفردوس ، أعلى الجنة ، ووسطها ، وأفضلها ، وأن هذا الثواب ، لمن كمل فيه الإيمان ، والعمل الصالح ، وهم الأنبياء والمقربون. ويحتمل أن يراد بها ، جميع منازل الجنان ، فيشمل هذا الثواب ، جميع طبقات أهل الإيمان ، من المقربين ، والأبرار ، والمقتصدين ، كلّ بحسب حاله ، وهذا أولى المعنيين ، لعمومه ، ولذكر الجنة ، بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس ، وأن الفردوس يطلق على البستان ، المحتوي على الكرم ، أو الأشجار الملتفة ، وهذا صادق على جميع الجنة. فجنة الفردوس ، نزل ، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح ، وأي ضيافة أجل ، وأكبر ، وأعظم ، من هذه الضيافة ، المحتوية على كل نعيم ، للقلوب ، والأرواح ، والأبدان ، وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من المنازل الأنيقة ، والرياض الناضرة ، والأشجار المثمرة ، والطيور المغردة المشجية ، والمآكل اللذيذة ، والمشارب الشهية ، والنساء الحسان ، والخدم ، والولدان ، والأنهار السارحة ، والمناظر الرائقة ، والجمال الحسي والمعنوي ، والنعمة الدائمة. وأعلى ذلك وأفضله وأجله ، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه ، الذي هو أكبر نعيم الجنان ، والتمتع برؤية وجهه الكريم ، وسماع كلام الرؤوف الرحيم. فلله تلك الضيافة ، ما أجلها وأجملها ، وأدومها ، وأكملها ، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق ، أو تخطر على القلوب ، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم ، علما حقيقيا ، يصل إلى قلوبهم ، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق ، ولتقطعت أرواحهم ، من ألم الفراق ، ولساروا إليها زرافات ووحدانا ، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية ، ولذات منغصة متلاشية ، ولم يفوتوا أوقاتا ، تذهب ضائعة خاسرة ، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب ، آلاف مؤلفة ، ولكن الغفلة شملت ، والإيمان ضعف ، والعلم قلّ ، والإرادة وهت فكان ما كان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[١٠٨] وقوله : (خالِدِينَ فِيها) هذا هو تمام النعيم ، إن فيها ، النعيم الكامل ، ومن تمامه أنه لا ينقطع (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً). أي : تحولا ولا انتقالا ، لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم ، ويسرهم ويفرحهم ، ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.
[١٠٩] أي : قل لهم ـ مخبرا عن عظمة الباري ، وسعة صفاته ، وأنها لا يحيط العباد بشيء منها : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ)