بعضهم بعضا. وتقول أخراهم لأولاهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ... (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ، وكل هذا ، تابع لعدله. وحكمته وعلمه الواسع.
[٧٠] ولهذا قال : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) (٧٠) أي : علمنا محيط بمن هو أولى صليا بالنار ، وقد علمناهم ، وعلمنا أعمالهم واستحقاقها ، وقسطها من العذاب.
[٧١] وهذا خطاب لسائر الخلائق ، برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم ، أنه ما منهم من أحد ، إلا سيرد النار ، حكما حتمه الله على نفسه ، وأوعد به عباده ، فلا بد من نفوذه ، ولا محيد عن وقوعه. واختلف في معنى الورود فقيل : ورودها ، حضورها للخلائق كلهم ، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد ، ثم بعد ، ينجي الله المتقين. وقيل : ورودها ، دخولها وحضورها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما. وقيل : الورود ، هو المرور على الصراط ، الذي هو على متن جهنم. فيمر الناس على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل ، وكأجاويد الركاب. ومنهم من يسعى ، ومنهم من يمشي مشيا ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم من يخطف فيلقى في النار ، كلّ بحسب تقواه.
[٧٢] ولهذا قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الله تعالى بفعل المأمور ، واجتناب المحظور (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي (فِيها جِثِيًّا) وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وجب لهم الخلود ، وحق عليهم العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب.
[٧٣] أي : وإذا تتلى على هؤلاء الكفار آياتنا بينات ، أي : واضحات الدلالة على وحدانية الله ، وصدق رسله ، توجب لمن سمعها ، صدق الإيمان ، وشدة الإيقان ـ قابلوها بضد ما يجب لها ، واستهزؤوا بها ، وبمن آمن بها واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا ، على أنهم خير من المؤمنين فقالوا معارضين للحق : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي : نحن والمؤمنين (خَيْرٌ مَقاماً) أي : في الدنيا ، من كثرة الأموال والأولاد ، وتفوق الشهوات (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجلسا : أي : فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة ، بسبب أنهم أكثر مالا وأولادا وقد حصلت أكثر مطالبهم من الدنيا ، ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة مزوقة ، والمؤمنون بخلاف هذه الحال ، فهم خير من المؤمنين. وهذا دليل في غاية الفساد ، وهو من باب قلب الحقائق ، وإلا فكثرة الأموال والأولاد ، وحسن المنظر ، كثيرا ما يكون سببا لهلاك صاحبه ، وشقائه ، وشره.
[٧٤] ولهذا قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) أي : متاعا ، من أوان وفرش ، وبيوت ، وزخارف (وَرِءْياً) أي : أحسن مرأى ومنظرا ، من غضارة العيش ، وسرور اللذات ، وحسن الصور. فإذا كان هؤلاء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا ، ولم يمنعهم ذلك من حلول العقاب بهم ، فكيف يكون هؤلاء ، وهم أقل منهم وأذل ، معتصمين من العذاب (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٤٣)؟ وعلم من هذا ، أن الاستدلال على خير الآخرة بخير الدنيا ، من أفسد الأدلة ، وأنه من طرق الكفار.
[٧٥] لما ذكر دليلهم الباطل ، الدال على شدة عنادهم ، وقوة ضلالهم ، أخبر هنا ، أن من كان في الضلالة ، بأن رضيها لنفسه ، وسعى فيها ، فإن الله يمده منها ، ويزيده فيها حبا ، عقوبة له على اختيارها على الهدى قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠). (حَتَّى إِذا رَأَوْا) أي : القائلون : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، (ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) بقتل أو غيره (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي هي باب الجزاء على الأعمال (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي : فحينئذ يتبين لهم بطلان دعواهم ، وأنها دعوى مضمحلة ، ويتيقنون أنهم أهل الشر. (وَأَضْعَفُ جُنْداً) ولكن لا يفيدهم هذا العلم شيئا ، لأنه لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ، فيعملون غير عملهم الأول.