من الشدائد ، ومن تيسير الأمر ، أن ييسر للداعي ، أن يأتي جميع الأمور من أبوابها ، ويخاطب كل أحد بما يناسب له ، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله.
[٢٧ ـ ٢٨] (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (٢٨) وكان في لسانه ثقل لا يكاد يفهم عنه الكلام ، كما قال المفسرون ، وكما قال الله عنه أنه قال : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) فسأل الله أن يحل منه عقدة ، يفقهوا ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة ، والمراجعة ، والبيان عن المعاني.
[٢٩ ـ ٣١] (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (٢٩) أي : معينا يعاونني ، ويؤازرني ، ويساعدني على من أرسلت إليهم ، وسأل أن يكون من أهله ، لأنه من باب البر ، وأحق ببر الإنسان ، قرابته. ثم عينه بسؤاله فقال : (هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٣١) أي : قوني به وشد به ظهري. قال الله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً).
[٣٢] (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) أي : في النبوة ، بأن تجعله نبيا رسولا ، كما جعلتني.
[٣٣ ـ ٣٤] ثم ذكر الفائدة في ذلك فقال : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤) علم ، عليه الصلاة والسّلام ، أن مدار العبادات كلها والدين ، على ذكر الله ، فسأل الله أن يجعل أخاه معه ، يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى ، فيكثر منهما ذكر الله ، من التسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع العبادات :
[٣٥] (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) تعلم حالنا ، وضعفنا ، وعجزنا ، وافتقارنا إليك في كل الأمور ، وأنت أبصر بنا ، من أنفسنا وأرحم ، فمنّ علينا بما سألناك ، وأجب لنا فيما دعوناك.
[٣٦] فقال الله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي : أعطيت جميع ما طلبت ، فسنشرح صدرك ، ونيسر أمرك ، ونحل عقدة من لسانك ، يفقهوا قولك ، ونشد عضدك بأخيك هرون ، (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ). وهذا السؤال من موسى عليهالسلام ، يدل على كمال معرفته بالله ، وكمال فطنته ومعرفته للأمور ، وكمال نصحه. وذلك أن الداعي إلى الله ، المرشد للخلق ، خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد ، والتكبر ، والطغيان ، يحتاج إلى سعة صدر ، وحلم تام ، على ما يصيبه من الأذى ، ولسان فصيح ، يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده. بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام ، من ألزم ما يكون ، لكثرة المراجعات والمراوضات ، ولحاجته لتحسين الحق ، وتزيينه بما يقدر عليه ، ليحببه إلى النفوس ، وإلى تقبيح الباطل وتهجينه ، لينفر عنه. ويحتاج مع ذلك أيضا ، أن يتيسر له أمره ، فيأتي البيوت من أبوابها ، ويدعو إلى سبيل الله ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، يعامل الناس كلا بحسب حاله. وتمام ذلك ، أن يكون لمن هذه صفته ، أعوان ووزراء ، يساعدونه على مطلوبه ، لأن الأصوات إذا كثرت ، لا بد أن تؤثر ، فلذلك سأله عليه الصلاة والسّلام هذه الأمور ، فأعطيها. وإذا نظرت إلى حالة الأنبياء المرسلين إلى الخلق ، رأيتهم بهذه الحال ، بحسب أحوالهم. خصوصا ، خاتمهم وأفضلهم ، محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال ، وله من شرح الصدر ، وتيسير الأمر ، وفصاحة اللسان ، وحسن التعبير والبيان ، والأعوان على الحق ، من الصحابة ، فمن بعدهم ، ما ليس لغيره.
[٣٧ ـ ٣٩] لما ذكر منته على عبده ورسوله ، موسى بن عمران ، في الدين ، والوحي ، والرسالة ، وإجابة سؤاله ، ذكر نعمته عليه ، وقت التربية ، والتنقلات في أطواره فقال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) حيث ألهمنا أمك ، أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع ، خوفا من فرعون ، لأنه أمر بذبح أبناء بني إسرائيل ، فأخفته أمه ، وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت ، ثم قذفته في اليم ، أي : شط نيل مصر ، فأمر الله اليم ، أن يلقيه في الساحل ، وقيض الله أن يأخذه ، أعدى الأعداء لله ولموسى ، ويتربى في أولاده ، ويكون قرة عين لمن رآه. ولهذا قال : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فكل من رآه أحبه (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي : ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي ، وأي نظر وكفالة ، أجل وأكمل ، من ولاية البر الرحيم ، القادر على إيصال مصالح عبده ، ودفع المضار عنه؟ فلا ينتقل من حالة