والآيات التي أريناكها ، قد تحققت صدقها ويقينها ، وهو الواقع ، فانقد إلى الحق ، ودع عنك الكفر والظلم ، وكثرة الجدال بالباطل ، وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستيقنة ، فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق فرد الدليل بالدليل ، والبرهان بالبرهان ، ولن تجد لذلك سبيلا ، ما دام الملوان. كيف وقد أخبر الله عنه ، أنه جحدها مع استيقانها ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ، وقال موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) ، فعلم أنه ظالم في جداله ، قصده ، العلو في الأرض.
[٥٣] ثم استطرد في هذا الدليل القاطع ، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي : فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها ، والقرار ، والبناء ، والغراس ، وإثارتها للازدراع وغيره ، وذللها لذلك ، ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم. (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : نفذ لكم الطرق الموصلة. من أرض ، إلى أرض ، ومن قطر إلى قطر ، حتى كان الآدميون ، يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون ، وينتفعون بأسفارهم ، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي : أنزل المطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وأنبت بذلك جميع أصناف النباتات على اختلاف أنواعها ، وتشتت أشكالها ، وتباين أحوالها ، فساقه ، وقدره ، ويسره ، ورزقا لنا ولأنعامنا ، ولو لا ذلك ، لهلك من عليها من آدمي وحيوان.
[٥٤] ولهذا قال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) وساقها على وجه الامتنان ، ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النباتات الإباحة ، فلا يحرم منها ، إلّا ما كان مضرا ، كالسموم ونحوه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : لذوي العقول الرزينة ، والأفكار المستقيمة على فضل الله ، وإحسانه ، ورحمته ، وسعة جوده ، وتمام عنايته ، وعلى أنه الرب المعبود ، المالك المحمود ، الذي لا يستحق العبادة سواه ، ولا الحمد والمدح والثناء ، إلّا من امتن بهذه النعم ، وعلى أنه على كل شيء قدير ، فكما أحيا الأرض بعد موتها ، إن ذلك لمحيي الموتى. وخص الله أولي النهى بذلك ، لأنهم المنتفعون بها ، الناظرون إليها نظر اعتبار. وأما من عداهم ، فإنهم بمنزلة البهائم السارحة ، والأنعام السائمة ، لا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها ، بل حظهم ، حظ البهائم ، يأكلون ويشربون ، وقلوبهم لاهية ، وأجسادهم معرضة. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥).
[٥٥] ولما ذكر كرم الأرض ، وحسن شكرها لما ينزله الله عليها من المطر ، وأنها بإذن ربها ، تخرج النبات المختلف الأنواع ـ أخبر أنه خلقنا منها ، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها ، ومنها يخرجنا تارة أخرى. فكما أوجدنا منها من العدم ، وقد علمنا ذلك ، وتحققناه ، فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا ، ليجازينا بأعمالنا ، التي عملناها عليها. وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان : إخراج النبات من الأرض بعد موتها ، وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.
[٥٦ ـ ٥٨] يخبر تعالى ، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع ، جميع أنواعها العيانية ، والأفقية والنفسية ، فما استقام ولا ارعوى ، وإنما كذب وتولى. كذب الخبر ، وتولى عن الأمر والنهي ، وجعل الحق باطلا ، والباطل