حقا ، وجادل بالباطل ، ليضل الناس فقال : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ) ، زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى ، سحر وتمويه ، المقصود منها ، إخراجهم من أرضهم ، والاستيلاء عليها ، ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه ، فإن الطباع ، تميل إلى أوطانها ، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها. فأخبرهم أن موسى هذا قصده ، ليبغضوه ، ويسعوا في محاربته ، فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا ، واجعل لنا (مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) أي : مستو علمنا وعلمك به ، أو مكانا سويا معتدلا لتتمكن من رؤية ما فيه.
[٥٩] فقال موسى : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وهو عيدهم ، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي : يجمعون كلهم في وقت الضحى ، وإنما سأل موسى ذلك ، لأن يوم الزينة ووقت الضحى ، فيه يحصل كثرة الاجتماع ، ورؤية الأشياء على حقائقها ، ما لا يحصل في غيره.
[٦٠] (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي : جميع ما يقدر عليه ، مما يكيد به موسى ، فأرسل في مدائنه ، من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم ، وكان السحر إذ ذاك ، متوافرا ، وعلمه مرغوبا فيه ، فجمع خلقا كثيرا من السحرة ، ثم أتى كل منهما للموعد ، واجتمع الناس للموعد. فكان الجمع حافلا ، حضره الرجال والنساء ، والملأ ، والأشراف ، والعوام ، والصغار ، والكبار ، وحضوا الناس على الاجتماع وقالوا للناس : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٤٠).
[٦١] فحين اجتمعوا من جميع البلدان ، وعظهم موسى عليهالسلام ، وأقام الحجة عليهم ، وقال لهم : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أي : لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق ، وتفترون على الله الكذب فيستأصلكم بعذاب من عنده ، ويخيب سعيكم وافتراؤكم ، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملئه ، ولا تسلموا من عذاب الله.
[٦٢] وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب ، لا جرم ، ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة ، لما سمعوا كلام موسى ، وارتبكوا. ولعل من جملة نزاعهم ، الاشتباه في موسى ، هل هو على الحق أم لا؟ ولكن هم إلى الآن ، ما تم أمرهم ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى ، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة ، لينجحوا في مقالهم وفعالهم ، وليتمسك الناس بدينهم.
[٦٣] والنجوى التي أسروها وفسرها ، بقوله : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) كمقالة فرعون السابقة ، فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد ، وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته ، التي صمم عليها ، وأظهرها للناس ، وزادوا على قول فرعون أن قالوا : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي : طريقة السحر حسدكم عليها ، وأراد أن يظهر عليكم ، ليكون له الفخر والصيت والشهرة ، ويكون هو المقصود بهذا العلم ، الذي شغلتم زمانكم فيه ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه ، وما يتبع ذلك من الرياسة ، وهذا