الدين ، وتوحيد ربّ العالمين ، ولهذا قال لهم إبراهيم ـ مضللا للجميع : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ضلال بين واضح ، وأي ضلال ، أبلغ من ضلالهم في الشرك ، وترك التوحيد؟ أي : فليس ما قلتم ، يصلح للتمسك به ، وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح ، البيّن لكل أحد.
[٥٥] (قالُوا) على وجه الاستغراب لقوله ، والاستفهام لما قال ، وكيف بادأهم بتسفيههم ، وتسفيه آبائهم ـ : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي : هذا القول الذي قلته ، والذي جئتنا به ، هل هو حق وجد؟ أم كلامك لنا ، كلام لاعب مستهزىء ، لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا. وإنّما رددوا الكلام بين الأمرين ، لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد ، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم ، كلام سفيه لا يعقل ما يقول.
[٥٦] فرد عليهم إبراهيم ردا يبين به وجه سفههم ، وقلة عقولهم فقال : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فجمع لهم بين الدليل العقلي ، والدليل السمعي. أما الدليل العقلي ، فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الّذين جادلهم إبراهيم ، أن الله وحده ، الخالق لجميع المخلوقات ، من بني آدم ، والملائكة ، والجن ، والبهائم ، والسموات ، والأرض ، المدبر لهن ، بجميع أنواع التدبير ، فيكون كل مخلوق مفطورا مدبّرا متصرفا فيه ، ودخل في ذلك ، جميع ما عبد من دون الله. أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز ، أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه ، لا يملك نفعا ، ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟ أما الدليل السمعي : فهو المنقول عن الرسل ، عليهمالسلام ، فإن ما جاؤوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحقّ ، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي : أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن.
[٥٧ ـ ٥٨] ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) أي : أكسرها على وجه الكيد (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) عنها إلى عيد من أعيادهم ، فلما تولوا مدبرين ، ذهب إليها بخفية. (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي : كسرا وقطعا ، وكانت مجموعة في بيت واحد ، فكسرها كلها. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي : إلا صنمهم الكبير ، فإنه تركه لمقصد سيبينه. وتأمل هذا الاحتراز العجيب ، فإن كل ممقوت عند الله ، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم ، إلا على وجه إضافته لأصحابه ، كما كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول : «إلى عظيم الفرس» «إلى عظيم الروم» ونحو ذلك ، ولم يقل «إلى العظيم». وهنا قال تعالى : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ولم يقل «كبيرا من أصنامهم». فهذا ينبغي التنبه له ، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله ، إلا إذا أضيف إلى من عظمه. وقوله : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي : ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه ، ويستملوا حجته ، ويلتفتوا إليها ، ولا يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ).
[٥٩ ـ ٦١] فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٩) فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده ، وإنّما الظالم من اتخذها آلهة ، وقد رأى ما يفعل بها (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي : يعيبهم ويذمهم ، ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) فلما تحققوا أنه إبراهيم (قالُوا فَأْتُوا بِهِ) أي : بإبراهيم (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي : بمرأى منهم ومسمع (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي : يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم ، وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحقّ بمشهد من الناس ليشاهدوا الحقّ وتقوم عليهم الحجة ، كما قال موسى حين واعد فرعون (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).