[٢٧] (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) عند استجابتنا له ، سببا ، ووسيلة للنجاة ، قبل وقوع أسبابه. (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) أي : السفينة (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي : بأمرنا لك ، ومعونتنا ، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بإرسال الطوفان الذي عذبوا به (وَفارَ التَّنُّورُ) ، أي : فارت الأرض ، وتفجرت عيونا ، حتى محل النار ، الذي لم تجر العادة إلا ببعده من الماء. (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات ، ذكرا وأنثى ، تبقى مادة النسل لسائر الحيوانات ، التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض. (وَأَهْلَكَ) أي : أدخلهم (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) كابنه. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لا تدعني أن أنجيهم ، فإن القضاء والقدر ، قد حتم أنهم مغرقون.
[٢٨] (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي : علوتم عليها ، واستقلت بكم في تيار الأمواج ، ولجج اليم ، فاحمدوا الله على النجاة والسلامة. فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ، وهذا تعليم منه له ، ولمن معه ، أن يقولوا هذا شكرا له ، وحمدا على نجاتهم ، من القوم الظالمين في عملهم وعذابهم.
[٢٩] (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢٩) أي : وبقيت عليكم نعمة أخرى ، فادعوا الله فيها ، وهي أن ييسر الله لكم منزلا مباركا ، فاستجاب الله دعاءه ، قال الله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إلى أن قال : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) الآية.
[٣٠] (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في هذه القصة (لَآياتٍ) تدل على أن الله وحده المعبود ، وعلى أن رسوله نوحا ، صادق ، وأن قومه كاذبون ، وعلى رحمة الله بعباده ، حيث حملهم في صلب أبيهم نوح ، في الفلك لما غرق أهل الأرض. والفلك أيضا من آيات الله قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) ولهذا جمعها هنا لأنها تدل على عدة آيات ومطالب. (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).
[٣١] لما ذكر نوحا وقومه ، وكيف أهلكهم قال : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٣١) ، الظاهر أنهم «ثمود» قوم صالح ، عليهالسلام لأن هذه القصة ، تشبه قصتهم.
[٣٢] (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) من جنسهم ، يعرفون نسبه وحسبه ، وصدقه ، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم ، إذا كان منهم ، وأبعد عن اشمئزازهم ، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة ، وهي أول دعوة يدعون بها أممهم ، الأمر بعبادة الله ، والإخبار أنه المستحق لذلك ، والنهي عن عبادة ما سواه ، والإخبار ببطلان ذلك وفساده. ولهذا قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) ربكم ، فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام.
[٣٣] (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : قال الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة ، وإنكار البعث والجزاء ، وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا ، معارضة لنبيهم ، وتكذيبا ، وتحذيرا منه : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : من جنسكم (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ، فما الذي يفضله عليكم؟ فهلا كان ملكا ، لا يأكل الطعام ، ولا يشرب الشراب.
[٣٤] (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٣٤) أي : إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا ، وهو مثلكم إنكم لمسلوبو العقل ، نادمون على ما فعلتم. وهذا من العجب ، فإن الخسارة والندامة حقيقة ، لمن لم يتابعه ، ولم ينقد له. والجهل والسفه العظيم ، لمن تكبر عن الانقياد لبشر ، خصه الله بوحيه ، وفضله برسالته ، وابتلي بعبادة الشجر والحجر. وهذا نظير قولهم : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥) ، فلما أنكروا رسالته وردوها ، أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت ، والمجازاة على الأعمال فقالوا :
[٣٥ ـ ٣٦] (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) * هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (٣٦) أي : بعيد بعيد