الذي له الكمال كله ، وغيره بخلاف ذلك. (أَفَلا تَتَّقُونَ) ما أنتم عليه من عبادة الأوثان ، والأصنام ، التي صورت على صور قوم صالحين ، فعبدوها مع الله ، فاستمر على ذلك ، يدعوهم سرا وجهارا ، وليلا ونهارا ، ألف سنة إلا خمسين عاما ، وهم لا يزدادون إلا عتوا ونفورا.
[٢٤] (فَقالَ الْمَلَأُ) من قومه الأشراف والسادة المتبوعون ـ على وجه المعارضة لنبيهم نوح ، والتحذير من اتباعه ـ : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : ما هذا إلا بشر مثلكم ، قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة ، ليكون متبوعا ، وإلا فما الذي يفضله عليكم ، وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة ، لا زالت موجودة ، في مكذبي الرسل. وقد أجاب الله عنها بجواب شاف ، على ألسنة رسله كما في (قالُوا) أي : لرسلهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، فأخبروا أن هذا فضل الله ومنته ، فليس لكم أن تحجروا على الله ، وتمنعوه من إيصال فضله علينا. وقالوا أيضا : ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة ، فإنه وإن كان لو شاء لأنزل ملائكة ، فإنه حكيم رحيم ، حكمته ورحمته ، تقتضي أن يكون الرسول من جنس الآدميين لأن الملائكة ، لا قدرة للناس على مخاطبته ، ولا يمكن أن يكون إلا بصورة رجل ثم يعود اللبس عليهم كما كان. وقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا) أي : بإرسال الرسول (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ، وأي حجة في عدم سماعهم إرسال رسول في آبائهم الأولين؟ لأنهم لم يحيطوا علما ، بما تقدم ، فلا يجعلوا جهلهم حجة لهم. وعلى تقدير أنه لم يرسل منهم رسولا ، فإما أن يكونوا على الهدى ، فلا حاجة لإرسال الرسول إذ ذاك ، وإما أن يكونوا على غيره ، فليحمدوا ربهم ، ويشكروه أن خصهم بنعمة ، لم تأت آباءهم ، ولا شعروا بها ، ولا يجعلوا عدم الإحسان على غيرهم ، سببا لكفرهم للإحسان إليهم.
[٢٥] (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : مجنون (فَتَرَبَّصُوا) أي : انتظروا به (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يأتيه الموت. وهذه الشّبه التي أوردوها ، معارضة لنبوة نبيهم ، دالة على شدة كفرهم وعنادهم ، وعلى أنهم في غاية الجهل والضلال ، فإنها لا تصلح للمعارضة ، بوجه من الوجوه ، كما ذكرنا ، بل هي في نفسها متناقضة متعارضة. فقولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أثبتوا أن له عقلا يكيدهم ، به ، ليعلوهم ، ويسودهم ، ويحتاج ـ مع هذا ـ أن يحذر منه لئلا يغتر به. فكيف يلتئم مع قولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) وهل هذا إلا من مشبه ضال ، منقلب عليه الأمر ، قصده : الدفع بأي طريق اتفق له ، غير عالم بما يقول؟ ويأبى الله إلا أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله.
[٢٦] فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٢٦) فاستنصر ربه عليهم ، غضبا ، حيث ضيعوا أمره ، وكذبوا رسله وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧). قال تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٧٥).