فتقع على الأرض ، ولا ننسى ذرة في لجج البحار ، وجوانب الفلوات ، ولا دابة إلا سقنا إليها رزقا (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها). وكثير ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) ، (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) لأن خلق المخلوقات ، من أقوى الأدلة العقلية ، على علم خالقها وحكمته.
[١٨ ـ ١٩] (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) يكون رزقا لكم ولأنعامكم ، بقدر ما يكفيكم ، فلا ينقصه ، بحيث يتلف المساكن ، ولا تعيش منه النباتات والأشجار ، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ، ثم صرفه ، عند التضرر من دوامه. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي : أنزلناه عليها ، فسكن واستقر ، وأخرج بقدرة منزله ، جميع الأزواج النباتية ، وأسكنه أيضا معدا ، في خزائن الأرض ، بحيث لم يذهب نازلا ، حتى لا يوصل إليه ، ولا يبلغ قعره. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) ، إما بأن لا ننزله ، أو ننزله ، فيذهب نازلا ، لا يوصل إليه ، أو لا يوجد منه المقصود منه ، وهذا تنبيه منه لعباده ، أن يشكروه على نعمته ، ويقدروا عدمها ، ما ذا يحصل به من الضرر ، كقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠). (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي : بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ). خص تعالى ، هذين النوعين ، مع أنه ينشر منه غيرهما من الأشجار ، لفضلهما ، ومنافعهما ، التي فاقت بها الأشجار ، ولهذا ذكر العام في قوله : (لَكُمْ) أي : في تلك الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من تين ، وأترج ، ورمان ، وتفاح وغيرها.
[٢٠] (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهي شجرة الزيتون ، أي : جنسها. خصت بالذكر ، لأن مكانها خاص ، في أرض الشام ، ولمنافعها ، التي ذكر بعضها في قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي : فيها الزيت ، الذي هو دهن ، يكثر استعماله من الاستصباح به ، واصطباغ للآكلين ، أي : يجعل إداما للآكلين ، وغير ذلك من المنافع.
[٢١] أي : ومن نعمه عليكم ، أن سخر لكم الأنعام من الإبل ، والبقر ، والغنم ، فيها عبرة للمعتبرين ، ومنافع ، للمنتفعين. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من لبن ، يخرج من بين فرث ودم ، لبن ، خالص ، سائغ للشاربين. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ، تستخفونها يوم ظعنكم ، ويوم إقامتكم (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أفضل المآكل من لحم وشحم.
[٢٢] (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢٢) أي : جعلها لكم في البر ، تحملون عليها أثقالكم إلى بلد ، لم تكونوا بالغيه ، إلا بشق الأنفس ، كما جعل لكم السفن في البحر ، تحملكم ، وتحمل متاعكم ، قليلا كان ، أو كثيرا. فالذي أنعم بهذه النعم ، وصنف أنواع الإحسان ، وأدر علينا من خيره المدرار ، هو الذي يستحق كمال الشكر ، وكمال الثناء ، والاجتهاد في عبوديته وأن لا يستعان بنعمه على معاصيه.
[٢٣] يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله ، نوح عليهالسلام ، أو رسول أرسله لأهل الأرض فأرسله إلى قومه ، وهم يعبدون الأصنام ، فأمرهم بعبادة الله وحده (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : أخلصوا له العبادة ، لأن العبادة ، لا تصح إلا بإخلاصها. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فيه إبطال ألوهية غير الله ، وإثبات الإلهية لله تعالى ، لأنه الخالق الرازق ،