التجارات ، محبوبا لها ، ويشق عليها تركه في الغالب ، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك ، ذكر ما يدعوها إلى ذلك ، ترغيبا وترهيبا ـ فقال : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) من شدة هوله وإزعاجه القلوب والأبدان ، فلذلك خافوا ذلك اليوم ، فسهل عليهم العمل ، وترك ما يشغل عنه.
[٣٨] (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) والمراد بأحسن ما عملوا : أعمالهم الحسنة الصالحة ، لأنه أحسن ما عملوا ، لأنهم يعملون المباحات وغيرها. فالثواب لا يكون إلّا على العمل الحسن كقوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٥). (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل لأعمالهم. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بل يعطيه ، من الأجر ، ما لا يبلغه عمله ، بل ولا تبلغه أمنيته ، ويعطيه من الأجر بلا عدّ ، ولا كيل ، وهذا كناية عن كثرته جدا.
[٣٩] هذان مثلان ، ضربهما الله لأعمال الكفار ؛ في بطلانها وذهابها سدى ؛ وتحسر عامليها منها فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بربهم وكذبوا رسله (أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) أي : بقاع ؛ لا شجر فيه ولا نبات. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) شديد العطش ، الذي يتوهم ، ما لا يتوهم غيره ، بسبب ما معه من العطش ، وهذا حسبان باطل ، فيقصده ليزيل ظمأه. (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) فندم ندما شديدا ، وازداد ما به من الظمأ ، بسبب انقطاع رجائه. كذلك أعمال الكفار ، بمنزلة السراب ، ترى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور ، أعمالا نافعة ، فتغره صورتها ، ويخلبه خيالها ، ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه ، وهو أيضا محتاج إليها ، كاحتياج الظمآن للماء. حتى إذ قدم على أعماله ، يوم الجزاء ، وجدها ضائعة ، ولم يجدها شيئا ، والحال إنه لم يذهب ، لا له ولا عليه ، بل (وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ). لم يخف عليه من عمله ، نقير ولا قطمير ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) فلا يستبطىء الجاهلون ذلك الوعد ، فإنه لا بد من إتيانه ، ومثّلها الله بالسراب ، الذي بقيعة ، أي : لا شجر فيه ولا نبات ، وهذا مثال لقلوبهم ، لا خير فيها ولا بر ، فتزكو فيها الأعمال وذلك للسبب المانع ، وهو الكفر.
[٤٠] والمثل الثاني ، لبطلان أعمال الكفار (كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) بعيد قعره ، طويل مداه (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة البحر اللجي ، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة ، ثم فوق ذلك ، ظلمة السحب المدلهمة ، ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم. فاشتدت الظلمة جدا ، بحيث أن الكائن في تلك الحال (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) مع قربها إليه ، فكيف بغيرها. كذلك الكفار ، تراكمت على قلوبهم الظلمات ، ظلمة الطبيعة ، التي لا خير فيها ، وفوقها ظلمة الكفر ، وفوق ذلك ، ظلمة الجهل ، وفوق ذلك ، ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر ، فبقوا في الظلمة متحيرين ، وفي غمرتهم يعمهون ، وعن الصراط المستقيم مدبرون ، وفي طرق الغي والضلال ، يترددون ، وهذا لأن الله خذلهم ، فلم يعطهم من نوره. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) لأن نفسه ظالمة جاهلة ، فليس فيه من الخير والنور ، إلّا ما أعطاها مولاها ، ومنحها ربها. يحتمل أن هذين المثالين ،