[٤٥] ينبه عباده على ما يشاهدونه ، أنه خلق جميع الدواب ، التي على وجه الأرض ، (مِنْ ماءٍ) أي : مادتها كلها ، الماء ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ). فالحيوانات التي تتوالد ، مادتها ، ماء النطفة ، حين يلقح الذكر الأنثى. والحيوانات التي تتولد من الأرض ، لا تتولد إلّا من الرطوبات المائية ، كالحشرات لا يوجد منها شيء ، يتولد من غير ماء أبدا. فالمادة واحدة ، ولكن الخلقة مختلفة ، من وجوه كثيرة ، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية ونحوها ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالآدميين ، وكثير من الطيور ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كبهيمة الأنعام ونحوها. فاختلافها ـ مع أن الأصل واحد ـ يدل على نفود مشيئة الله ، وعموم قدرته ، ولهذا قال : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) أي : من المخلوقات ، على ما يشاؤه من الصفات. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كما أنزل المطر على الأرض ، وهو لقاح واحد ، والأم واحدة ، وهي الأرض ، والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤).
[٤٦] أي : لقد رحمنا عبادنا ، وأنزلنا إليهم آيات بينات ، أي : واضحات الدلالة ، على جميع المقاصد الشرعية ، والآداب المحمودة ، والمعارف الرشيدة. فاتضحت بذلك السبيل ، وتبين الرشد من الغي ، والهدى من الضلال ، فلم يبق أدنى شبهة لمبطل ، يتعلق بها ، ولا أدنى إشكال ، لمريد الصواب ، لأنها تنزيل من كمل علمه ، وكملت رحمته ، وكمل بيانه ، فليس بعد بيانه بيان «ليهلك» بعد ذلك «من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة». (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ممن سبقت لهم سابقة الحسنى ، وقدم الصدق. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق واضح مختصر ، موصل إليه ، وإلى دار كرامته ، متضمن العلم بالحق وإيثاره ، والعمل به. عمم البيان التام لجميع الخلق ، وخصص بالهداية من يشاء ، فهذا فضله وإحسانه ، وما فضل الكريم بممنون وذاك عدله ، وقطع الحجة للمحتج والله أعلم حيث يجعل مع مواقع إحسانه.
[٤٧] يخبر تعالى عن حالة الظالمين ، ممن في قلبه مرض وضعف إيمان ، أو نفاق ، وريب ، وضعف علم ، أنهم يقولون بألسنتهم ، ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة ، ثم لا يقومون بما قالوا ، ويتولى فريق منهم عن الطاعة ، تولّيا عظيما ، بدليل قوله : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فإن المتولّي ، قد يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولّى عنه. وهذا المتولي ، معرض ، لا التفات له ، ولا نظر لما تولى عنه ، وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدّعي الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان. وتجده لا يقوم بكثير من العبادات ، خصوصا : العبادات ، التي تشق على كثير من النفوس ، كالزكاة ، والنفقات الواجبة والمستحبة ، والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك.
[٤٨] (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي : إذا صار بينهم ، وبين أحد ، حكومة ، ودعوا إلى الله ورسوله (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) يريدون أحكام الجاهلية ، ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية ، لعلمهم أن الحق عليهم ، وأن الشرع لا يحكم إلّا بما يطابق الواقع.