[٤٩] (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي : إلى حكم الشرع (مُذْعِنِينَ) وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي ، وإنّما ذلك ، لأجل موافقة أهوائهم. فليسوا ممدوحين في هذه الحال ، ولو أتوا إليه مذعنين ، لأن العبد حقيقة ، من يتبع الحق ، فيما يحب ويكره ، وفيما يسره ويحزنه ، وأما الذي يتبع الشرع ، عند موافقة هواه ، وينبذه عند مخالفته ، ويقدم الهوى على الشرع ، فليس بعبد لله على الحقيقة.
[٥٠] قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : علة ، أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته ، فصار بمنزلة المريض ، الذي يعرض عما ينفعه ، ويقبل على ما يضره. (أَمِ ارْتابُوا) أي : شكوا ، أو قلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله ، واتهموه أنه لا يحكم بالحق. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي : يحكم عليهم حكما ظالما جائرا ، وإنّما هذا وصفهم (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وأما حكم الله ورسوله ، ففي غاية العدالة والقسط ، وموافقة الحكمة. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). وفي هذه الآيات ، دليل على أن الإيمان ، ليس هو مجرد القول ، حتى يقترن به العمل ، ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة ، ووجوب الانقياد لحكم الله ، ورسوله في كلّ حال ، وإن لم ينقد له ، دل على مرض في قلبه ، وريب في إيمانه ، وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام الشريعة ، وأن يظن بها ، خلاف العدل والحكمة.
[٥١] ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي ، ذكر حالة المؤمنين الممدوحين ، فقال : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) إلى (الْفائِزُونَ) أي : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) حقيقة الّذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) سواء وافق أهواءهم ، أو خالفها ، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا حكم الله ورسوله ، وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة ، سالمة من الحرج. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، حصر الفلاح فيهم ، لأن الفلاح : الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المكروه ، ولا يفلح إلّا من حكّم الله ورسوله ، وأطاع الله ورسوله.
[٥٢] ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا ، ذكر فضلها عموما ، في جميع الأحوال ، فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما. (وَيَخْشَ اللهَ) أي : يخافه ، خوفا مقرونا ، بمعرفة ، فيترك ما نهى عنه ، ويكف نفسه عما تهوى. ولهذا قال : (وَيَتَّقْهِ) بترك المحظور ، لأن التقوى ـ عند الإطلاق ـ يدخل فيها ، فعل المأمور به ، وترك المنهي عنه ، وعند اقترانها بالبر أو الطاعة ـ كما في هذا الموضع ـ تفسر بتوقّي عذاب الله ، بترك معاصيه. (فَأُولئِكَ) الّذين جمعوا ، بين طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وخشية الله وتقواه ، (هُمُ الْفائِزُونَ) بنجاتهم من العذاب ، لتركهم أسبابه ، ووصولهم إلى الثواب ، لفعلهم أسبابه ، فالفوز محصور فيهم ، وأما من لم يتصف بوصفهم ، فإنه يفوته من الفوز ، بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة. واشتملت هذه الآية ، على الحق المشترك ، بين الله وبين رسوله ، وهو : الطاعة المستلزمة للإيمان ، والحق المختص بالله ، وهو : الخشية والتقوى ، وبقي الحق الثالث المختص بالرسول ، وهو التعزير والتوقير. كما جمع بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩).
[٥٣] يخبر تعالى عن حالة المتخلفين عن الرسول صلىاللهعليهوسلم ، في الجهاد من المنافقين ، ومن في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بالله. (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) فيما يستقبل ، أو لئن نصصت عليهم ، حين خرجت (لَيَخْرُجُنَ) والمعنى الأول ، أولى. قال الله ـ رادا عليهم ـ : (قُلْ لا تُقْسِمُوا) أي : لا نحتاج إلى إقسامكم ولا إلى أعذاركم ، فإن الله قد نبأنا من أخباركم ، وطاعتكم معروفة ، لا تخفى علينا ، قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل ، من غير عذر ، فلا وجه لعذركم وقسمكم ، إنّما يحتاج إلى ذلك ، من كان أمره محتملا ، وحاله مشتبهة ، فهذا ربما يفيده العذر براءة ، وأما أنتم ، فكلا ولما ، وإنّما ينتظر بكم ويخاف عليكم ، حلول بأس الله ونقمته ، ولهذا توعدهم بقوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليها أتم الجزاء ، هذه حالهم في نفس الأمر.