أهل العلو فيها ، لا من الأعلين فيها. (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : طوائف متفرقة ، يتصرف فيهم بشهوته ، وينفذ فيها ما أراد من قهره ، وسطوته. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وتلك الطائفة ، هم : بنو إسرائيل ، الّذين فضلهم الله على العالمين ، الذي ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم. ولكنه استضعفهم ، بحيث إنه رأى أنهم لا منعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم. فصار لا يبالي بهم ولا يهتم بشأنهم ، وبلغت به الحال ، إلى أنه (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) خوفا من أن يكثروا ، فيغمروه في بلاده ، ويصير لهم الملك. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الّذين لا قصد لهم في صلاح الدين ، ولا صلاح الدنيا ، وهذا من إفساده في الأرض.
[٥] (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف ، ونهلك من قاومهم ، ونخذل من ناوأهم. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) في الدين ، وذلك لا يحصل مع استضعاف ، بل لا بد من تمكين في الأرض ، وقدرة تامة. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) للأرض ، الّذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.
[٦] (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) فهذه الأمور كلها ، قد تعلقت بها إرادة الله ، وجرت بها مشيئته. (وَ) كذلك نريد أن (نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) وزيره (وَجُنُودَهُما) الّذين بهم صالوا وجالوا ، وعلوا وبغوا (مِنْهُمْ) أي : من هذه الطائفة المستضعفة. (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من إخراجهم من ديارهم ، ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ، وكسر شوكتهم ، وتقتيل أبنائهم ، الّذين هم محل ذلك. فكل هذا قد أراده الله ، وإذا أراد أمرا ، سهّل أسبابه ، ونهج طرقه. وهذا الأمر كذلك ، فإنه قدر وأجرى من الأسباب ـ الّتي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه ـ ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود. فأول ذلك ، لما أوجد الله رسوله موسى ، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه ، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ، الّتي يذبحون بها الأبناء.
[٧] أوحى إلى أمه ، أن ترضعه ، ويمكث عندها. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم. (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي : نيل مصر ، في وسط تابوت مغلق. (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). فبشرها بأنه سيرده إليها ، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ، ويجعله الله رسولا. وهذا من أعظم البشائر الجليلة ، وتقديم هذه البشارة لأم موسى ، ليطمئن قلبها ، ويسكن روعها ، فكأنها خافت عليه ، وفعلت ما أمرت به ، ألقته في أليم ، وساقه الله تعالى.
[٨ ـ ١٠] (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) فصار من لقطهم ، وهم الّذين باشروا وجدانه. (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي : لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط ، أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم ، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر ، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل ، قيّض الله أن يكون زعيمهم ، يتربى تحت أيديهم ، وعلى نظرهم ، وبكفالتهم. وعند التدبر والتأمل ، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل ، ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم ، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته بحيث إنه صار من كبار المملكة. وبالطبع لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق