وعدناها به عيانا ، ليطمئن بذلك قلبها ، ويزداد إيمانها ، ولتعلم أنه سيحصل وعد الله ، في حفظه ، ورسالته .. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فإذا رأوا السبب متشوشا ، شوش ذلك إيمانهم ، لعدم علمهم الكامل ، أن الله تعالى يجعل المحن والعقبات الشاقة ، بين يدي الأمور العالية ، والمطالب الفاضلة. فاستمر موسى عليه الصلاة والسّلام عند آل فرعون ، يتربى في سلطانهم ، ويركب مراكبهم ، ويلبس ملابسهم. وأمه بذلك مطمئنة ، قد استقر أنها أمه من الرضاع ، ولم يستنكر ملازمته إياها ، وحنوه عليها. وتأمل هذا اللطف من الله ، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه ، وتيسير الأمر ، الذي صار به التعلق ، بينه وبينها ، الذي بان للناس ، أنه هو الرضاع ، الذي بسببه يسميها أمّا ، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله ، صدقا وحقا.
[١٤] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) من القوة والعقل واللب ، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب. (وَاسْتَوى) فكملت فيه تلك الأمور (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : حكما يعرف به الأحكام الشرعية ، ويحكم به بين الناس ، وعلما كثيرا. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الله المحسنين ، لخلق الله ، يعطيهم علما وحكما ، بحسب إحسانهم ، ودلّ هذا على كمال إحسان موسى عليهالسلام.
[١٥ ـ ١٦] (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) إما وقت القائلة ، أو غير ذلك من الأوقات ، الّتي بها يغفلون عن الانتشار. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) يتخاصمان ويتضاربان (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي : من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) كالقبط. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) لأنه قد اشتهر ، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل ، واستغاثته لموسى ، دليل على أنه بلغ موسى عليهالسلام مبلغا يخاف منه ، ويرجى من بيت المملكة والسلطان. (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي : وكز الذي من عدوه ، استجابة لاستغاثة الإسرائيلى (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : أماته من تلك الوكزة ، لشدتها ، وقوة موسى. فندم موسى عليهالسلام على ما جرى منه ، و (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : من تزيينه ، ووسوسته (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة ، وحرصه على الإضلال. ثمّ استغفر ربه (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) خصوصا للمخبتين إليه ، المبادرين للإنابة والتوبة ، كما جرى من موسى عليهالسلام.
[١٧] (قالَ) موسى (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بالتوبة والمغفرة ، والنعم الكثيرة. (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) أي : معينا ومساعدا (لِلْمُجْرِمِينَ) أي : لا أعين أحدا على معصية. وهذا وعد من موسى عليهالسلام ، بسبب منّة الله عليه ، أن لا يعين مجرما ، كما فعل في قتل القبطي. وهذا يفيد أن النعم ، تقتضي من العبد فعل الخير ، وترك الشر.
[١٨] (ف) لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه أصبح (فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) هل يشعر به آل فرعون ، أم لا؟ وإنّما خاف لأنه قد علم ، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال ، سوى موسى ، من بني إسرائيل. فبينما هو على تلك الحال (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) على عدوّه (يَسْتَصْرِخُهُ) على قبطي آخر. (قالَ لَهُ مُوسى) موبخا على حاله (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي : بين الغواية ، ظاهر الجراءة.
[١٩] (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ) موسى (بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : له وللمخاصم المستصرخ لموسى ، أي : لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي ، وهو يستغيث بموسى ، فأخذته الحمية ، حتى هم أن يبطش بالقبطي. (قالَ) له القبطي زاجرا له عن قتله : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض ، قتل النفس بغير حق. (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) وإلا ، فلو أردت الإصلاح ، لحلت بيني وبينه ، من غير قتل أحد. فانكفّ موسى عن قتله ، وارعوى ، لوعظه وزجره. وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين ، حتى تراود ملأ فرعون ، وفرعون على قتله ، وتشاوروا على ذلك. فقيّض الله ، ذلك الرجل الناصح ، وبادر إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رأي ملئهم. فقال :