مِنَ الدُّنْيا) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك ، وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك ، استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك. (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بهذه الأموال. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بالتكبر ، والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة.
[٧٨] (قالَ) قارون ـ رادا لنصيحتهم ، كافرا بنعمة ربه ـ : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي : إنّما أدركت هذه الأموال ، بكسبي ، ومعرفتي بوجوه المكاسب ، وحذقي. أو على علم من الله بحالي ، يعلم أني أهل لذلك ، فلم تنصحوني على ما أعطاني الله؟ قال تعالى ـ مبينا أن عطاءه ، ليس دليلا على حسن حال المعطي : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) فما المانع من إهلاك قرون أخرى ، مع مضيّ عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم منه ، إذا فعل ما يوجب الهلاك؟ (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) بل يعاقبهم الله ، ويعذبهم على ما يعلمه منهم. فهم ، وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة ، وشهدوا لها بالنجاة ، فليس قولهم مقبولا ، وليس ذلك رادا عنهم من العذاب شيئا ، لأن ذنوبهم غير خفية ، فإنكارهم لا محل له. فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه ، وعدم قبول نصيحة قومه ، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه ، وغره ما أوتيه من الأموال.
[٧٩] (فَخَرَجَ) ذات يوم (عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي : بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه ، قد كان له من الأموال ما كان ، وقد استعد وتجمّل بأعظم ما يمكنه. وتلك الزينة في العادة ، من مثله ، تكون هائلة ، جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها. فرمقته في تلك الحالة العيون ، وملأت بزّته القلوب ، واختلبت زينته النفوس. فانقسم فيه الناظرون قسمين ، كل تكلّم بحسب ما عنده من الهمة والرغبة. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : الّذين تعلقت إرادتهم فيها ، وصارت منتهى رغبتهم ليس لهم إرادة في سواها : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) من الدنيا ومتاعها وزهرتها (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وصدقوا إنه لذو حظ عظيم ، لو كان الأمر منتهيا إلى رغباتهم ، وأنه ليس وراء الدنيا ، دار أخرى ، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا ، واقتدر بذلك على جميع مطالبه ، فصار هذا الحظ العظيم بحسب همتهم ، وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ، ومنتهى مطلبها لمن أدنى الهمم ، وأسفلها ، وأدناها ، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية ، والمطالب الغالية.
[٨٠] (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الّذين عرفوا حقائق الأشياء ، ونظروا إلى باطن الدنيا ، حين نظر أولئك إلى ظاهرها : (وَيْلَكُمْ) متوجعين مما تمنوا لأنفسهم ، راثين لحالهم ، منكرين لمقالهم. (ثَوابُ اللهِ) العاجل ، من لذة العبادة ومحبته ، والإنابة إليه ، والإقبال عليه. والآجل من الجنة ، وما فيها ، مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه ، فهذه حقيقة الأمر. ولكن ما كلّ من يعلم ذلك يقبل عليه ، فما يلقّى ذلك ويوفق له (إِلَّا الصَّابِرُونَ) الّذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة ، وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها ، أن تشغلهم عن ربهم ، وأن تحول بينهم ، وبين ما خلقوا له. فهؤلاء الّذين يؤثرون ثواب الله على الدنيا الفانية.
[٨١] فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر ، وازّيّنت الدنيا عنده ، وكثر بها إعجابه ، بغتة العذاب (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) جزاء من جنس عمله. فكما رفع نفسه على عباد الله ، أنزله الله أسفل سافلين ، هو ما اغتر به ، من داره ، وأثاثه ، ومتاعه. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أي : جماعة ، وعصبة ، وخدم ، وجنود (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي : جاءه العذاب ، فما نصر ، ولا انتصر.
[٨٢] (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي : الذي يريدون الحياة الدنيا ، الّذين قالوا : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ). (يَقُولُونَ) متوجعين ومعتبرين ، وخائفين من وقوع العذاب بهم : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ