به ، أن يحقق ما عزموا عليه من الأعمال ، ويكملها. ونص على التوكل ، وإن كان داخلا في الصبر ؛ لأنه يحتاج إليه في كلّ فعل وترك مأمور به ، ولا يتم إلا به.
[٦٠] أي : الباري تبارك وتعالى ، قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم ، قويهم ، وعاجزهم. فكم (مِنْ دَابَّةٍ) في الأرض ضعيفة القوى ، ضعيفة العقل. (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ولا تدخره ، بل لم تزل ، لا شيء معها من الرزق ، ولا يزال الله يسخر لها الرزق ، في كلّ وقت بوقته. (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) فكلكم عيال الله القائم برزقكم ، كما قام بخلقكم وتدبيركم. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فلا تخفى عليه خافية ، ولا تهلك دابة من عدم الرزق ، بسبب أنها خافية عليه. كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦).
[٦١ ـ ٦٣] هذا استدلال على المشركين ، المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة ، وإلزام لهم ، بما أثبتوه من توحيد الربوبية. فأنت لو سألتهم من خلق السموات والأرض ، ومن نزل من السماء ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، ومن بيده تدبير جميع الأشياء؟ (لَيَقُولُنَّ اللهُ) وحده ولا لاعترفوا بعجز الأوثان ، ومن عبدوه مع الله ، عن شيء من ذلك. فاعجب لإفكهم ، وكذبهم ، وعدولهم إلى من أقروا بعجزه ، وأنه لا يستحق أن يدبر شيئا. وسجّل عليهم عدم العقل ، وأنهم السفهاء ، ضعفاء الأحلام. فهل تجد أضعف عقلا ، وأقل بصيرة ، ممن أتى إلى حجر ، أو قبر ونحوه وهو يدري أنه لا ينفع ولا يضر ، ولا يخلق ولا يرزق ـ ثمّ صرف له خالص الإخلاص ، وصافي العبادة ، وأشركه مع الرب ، الخالق الرازق ، النافع الضار. وقل : الحمد لله الذي بيّن الهدى من الضلال ، وأوضح بطلان ما عليه المشركون ، ليحذره الموفقون. وقل : الحمد لله ، الذي خلق العالم العلوي والسفلي ، وقام بتدبيرهم ، ورزقهم ، وبسط الرزق على من يشاء ، وضيقه عمّن يشاء ، حكمة منه ، ولعلمه بما يصلح عباده ، وما ينبغي لهم.
[٦٤] يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة ، وفي ضمن ذلك ، التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى فقال : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) في الحقيقة (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) تلهو بها القلوب ، وتلعب بها الأبدان ، بسبب ما جعل الله فيها من الزينة واللذات ، والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة ، الباهجة للعيون الغافلة ، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة. ثمّ تزول سريعا ، وتنقضي جميعا ، ولم يحصل منها محبها ، إلا على الندم والخسران. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي : الحياة الكاملة ، الّتي من لوازمها ، أن تكون أبدان أهلها ، في غاية القوة ، وقواهم في غاية الشدة ، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة ، وأن يكون موجودا فيها ، كل ما تكمل به الحياة ، وتتم به اللذة ، من مفرحات القلوب ، وشهوات الأبدان ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت. ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لما آثروا الدنيا على الآخرة ، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان ، ورغبوا في دار اللهو واللعب ، فدل ذلك أن الّذين يعلمون لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا ، لما يعلمونه من حالة الدارين.
[٦٥] ثمّ ألزم تعالى ، المشركين بإخلاصهم لله ، في حال الشدة ، عند ركوب البحر ، وتلاطم أمواجه ، وخوفهم الهلاك ، يتركون وقتذاك أندادهم ، ويخلصون الدعاء لله وحده لا شريك له. فلما زالت عنهم الشدة ، ونجى من أخلصوا له الدعاء إلى البر ، أشركوا به ، من لا نجاهم من شدة ، ولا أزال عنهم مشقة. فهلا أخلصوا لله الدعاء ، في حال الرخاء والشدة ، واليسر والعسر ، ليكونوا مؤمنين حقا ، مستحقين ثوابه ، مندفعا عنهم عقابه. ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم ، بالنجاة من البحر ، ليكون عاقبته الكفر بما آتيناهم ، ومقابلة النعمة بالإساءة ، وليكملوا تمتعهم في الدنيا ، الذي هو كتمتع الأنعام ، ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم.
[٦٦] (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة ، شدة الأسف ، وأليم العقوبة. ثمّ امتنّ عليهم بحرمه الآمن ، وأنهم أهله في أمن ، وسعة ورزق ، والناس من حولهم ، يتخطفون ويخافون. فلا يعبدون الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف.