[٤ ـ ٥] (فِي بِضْعِ سِنِينَ) تسع ، أو ثمان ، ونحو ذلك ، مما لا يزيد على العشر ، ولا ينقص عن الثلاث ، وأن غلبة الفرس للروم ، ثمّ غلبة الروم للفرس ، كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب. وإنّما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر. (وَيَوْمَئِذٍ) أي : يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي : يفرحون بانتصارهم على الفرس ، وإن كان الجميع كفارا ، ولكن بعض الشر أهون من بعض ، ويحزن يومئذ المشركون. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي له العزة ، الّتي قهر بها الخلائق أجمعين (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ). (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين ، حيث قيّض لهم من الأسباب الّتي تسعدهم وتنصرهم ، ما لا يدخل في الحساب.
[٦] (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) فتيقنوا ذلك ، واجزموا به ، واعلموا أنه لا بد من وقوعه. فلما نزلت هذه الآيات ، الّتي فيها هذا الوعد ، صدق بها المسلمون ، وكفر بها المشركون ، حتى تراهن بعض المسلمين وبعض المشركين ، على مدة سنين عينوها. فلما جاء الأجل ، الذي ضربه الله ، انتصر الروم على الفرس ، وأجلوهم عن البلاد الّتي أخذوها منهم ، وتحقق وعد الله. وهذا من الأمور الغيبية ، الّتي أخبر بها الله قبل وقوعها ، ووجدت في زمان من أخبرهم الله بها ، من المسلمين والمشركين. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ما وعد الله به حق ، فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعده ، ويكذبون آياته. وهؤلاء الذي لا يعلمون ، أي : لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها.
[٧] وإنّما (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فينظرون إلى الأسباب ، ويجزمون بوقوع الأمر ، الذي في رأيهم ، انعقدت أسباب وجوده ، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده ، شيئا فهم واقفون مع الأسباب ، غير ناظرين إلى مسببها ، المتصرف فيها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) قد توجهت قلوبهم ، وأهواؤهم ، وإراداتهم ، إلى الدنيا وشهواتها ، وحطامها ، فعملت لها ، وسعت ، وأقبلت بها وأدبرت ، وغفلت عن الآخرة. فلا الجنة تشتاق إليها ، ولا النار تخافها وتخشاها ، ولا المقام بين يدي الله ولقائه ، يروعها ويزعجها ، وهذا علامة الشقاء ، وعنوان الغفلة عن الآخرة. ومن العجب أن هذا القسم من الناس ، قد بلغت بكثير منهم ، الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا ، إلى أمر يحير العقول ، ويدهش الألباب. وأظهروا من العجائب الذرية ، والكهربائية ، والمراكب البرية والبحرية ، والهوائية ، ما فاقوا به وبرزوا ، وأعجبوا بعقولهم ، ورأوا غيرهم عاجزا عمّا أقدرهم الله عليه. فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء ، وهم مع ذلك ، أبلد الناس في أمر دينهم ، وأشدهم غفلة عن آخرتهم ، وأقلهم معرفة بالعواقب. قد رآهم أهل البصائر النافذة ، في جهلهم يتخبطون ، وفي ضلالهم يعمهون ، وفي باطلهم يترددون. نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون. ولو نظروا إلى ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه ، من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها ، وما حرموا من العقل العالي ، لعرفوا أن الأمر لله ، والحكم له في عباده ، وإن هو إلا توفيقه أو خذلانه ، ولخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم ، من نور العقول والإيمان ، حتى يصلوا إليه ،