واحِدَةٍ) وهذا شيء يحير العقول. إن خلق جميع الخلق ـ على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم ، بعد تفرقهم في لمحة واحدة ـ كخلقه نفسا واحدة. فلا وجه لاستبعاد البعث والنشور ، والجزاء على الأعمال ، إلا الجهل بعظمة الله وقوة قدرته. ثمّ ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات ، وبصره لجميع المبصرات فقال : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)
[٢٩] وهذا فيه أيضا ، انفراده بالتصرف والتدبير ، وسعة تصرفه بإيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل ، أي : إدخال أحدهما على الآخر ، فإذا دخل أحدهما ، ذهب الآخر. وتسخيره للشمس والقمر ، ويجريان بتدبير ونظام ، لم يختل منذ خلقهما ، ليقيم بذلك من مصالح العباد ومنافعهم ، في دينهم ودنياهم ، ما به يعتبرون وينتفعون. و (كُلٌ) منهما (يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إذا جاء ذلك الأجل ، انقطع جريانهما ، وتعطّل سلطانهما ، وذلك في يوم القيامة ، حين تكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتنتهي دار الدنيا ، وتبتدئ الدار الآخرة. (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من خير وشر (خَبِيرٌ) لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وسيجازيكم على تلك الأعمال ، بالثواب للمطيعين ، والعقاب للعاصين.
[٣٠] (ذلِكَ) الذي بين لكم من عظمته وصفاته ، ما بيّن (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) في ذاته وفي صفاته ، ودينه حق ، ورسله حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، وعبادته هي الحقّ. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) في ذاته وصفاته. فلو لا إيجاد الله له ، لما وجد ، ولو لا إمداده ، لما بقي. فإذا كان باطلا ، كانت عبادته أبطل وأبطل. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) بذاته ، فوق جميع مخلوقاته ، الذي علت صفاته عن أن يقاس بها صفات ، وعلا على الخلق فقهرهم (الْكَبِيرُ) الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء والأرض.
[٣١] أي : ألم تر من آثار قدرته ورحمته ، وعنايته بعباده ، أن سخّر البحر ، تجري فيه الفلك ، بأمره القدري ، ولطفه وإحسانه. (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) ففيها الانتفاع والاعتبار. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). المنتفعون بالآيات ، كل صبّار على الضراء ، شكور على السرّاء ، صبّار على طاعة الله وعن معصيته ، وعلى أقداره ، شكور لله ، على نعمه الدينية والدنيوية.
[٣٢] وذكر تعالى حال الناس ، عند ركوبهم البحر ، وغشيان الأمواج كالظلل فوقهم ، أنهم يخلصون الدعاء لله والعبادة فقال : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) وانقسموا فريقين : (فَمِنْهُمْ) فريق (مُقْتَصِدٌ) أي : لم يقم بشكر الله على وجه الكمال ، بل هم مذنبون ظالمون لأنفسهم. وفريق كافر بنعمة الله ، جاحد لها ، ولهذا قال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي : غدار ، ومن غدره أنه عاهد ربه ، لئن أنجيتنا من البحر وشدته ، لنكونن من الشاكرين. فغدر هذا الفريق ولم يف بذلك ، وهو مع ذلك (كَفُورٍ) بنعم الله. فهل يليق بمن نجاهم الله من هذه الشدة ، إلا القيام التام بشكر نعم الله؟
[٣٣] يأمر تعالى الناس بتقواه ، الّتي هي : امتثال أوامره ، وترك زواجره. ويستلفتهم لخشية يوم القيامة ، اليوم