غني عنهم ، وعن أعمالهم. ومن غناه ، أن أغناهم وأقناهم في دنياهم وأخراهم.
[٢٦] ثمّ أخبر تعالى عن سعة حمده ، وأن حمده من لوازم ذاته ، فلا يكون إلا حميدا من جميع الوجوه ، فهو حميد في ذاته ، وهو حميد في صفاته. فكل صفة من صفاته ، يستحق عليها أكمل حمد وأتمه ، لكونها صفات عظمة وكمال. وجميع ما فعله وخلقه ، يحمد عليه ، وجميع ما أمر به ونهى عنه ، يحمد عليه. وجميع ما حكم به في العباد ، وبين العباد ، في هذه الحياة الدنيا ، وفي الآخرة ، يحمد عليه.
[٢٧] ثمّ أخبر عن سعة كلامه عزوجل ، وعظمة قوله ، بشرح يبلغ من القلوب كلّ مبلغ ، وتنبهر له العقول ، وتتحير فيه الأفئدة ، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) يكتب بها (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) مدادا يستمد بها ، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد ، و (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). وهذا ليس مبالغة لا حقيقة له. بل لما علم تبارك وتعالى ، أن العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته ، وعلم تعالى ، أن معرفته لعباده ، أفضل نعمة ، أنعم بها عليهم ، وأجلّ منقبة حصلوها ، وهي لا تمكن على وجهها ، ولكن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فنبههم تعالى على بعضها تنبيها تستنير به قلوبهم ، وتنشرح له صدورهم ، ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه ، ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه : «لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وإلا ، فالأمر أجلّ من ذلك ، وأعظم. وهذا التمثيل ، من باب تقريب المعنى ، الذي لا يطاق الوصول به إلى الأفهام والأذهان. وإلا ، فالأشجار ، وإن تضاعفت على ما ذكر ، أضعافا كثيرة ، والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة ، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها ، لكونها مخلوقة. وأما كلام الله تعالى ، فلا يتصور نفاده ، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي ، على أنه لا نفاد له ولا منتهى ، فكل شيء ينتهى إلا الباري وصفاته (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢). وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته ، وأن كلّ ما فرضه الذهن والعقل ، من الأزمان السابقة ، مهما تسلسل الفرض والتقدير ، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية. وأنه مهما فرض الذهن والعقل ، من الأزمان المتأخرة ، وتسلسل الفرض والتقدير ، وساعد على ذلك من ساعد ، بقلبه ولسانه ، فالله تعالى ، بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية. والله من جميع الأوقات ، يحكم ، ويتكلم ، ويقول ، ويفعل كيف أراد ، وإذا أراد ، لا مانع له من شيء ، من أقواله وأفعاله. فإذا تصور العقل ذلك ، عرف أن المثل الذي ضربه الله لكلامه ، ليدرك العباد شيئا منه ، وإلا ، فالأمر أعظم وأجل. ثمّ ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : له العزة جميعا ، الذي ما في العالم العلوي والسفلي من القوة ، إلا هي منه ، هو الذي أعطاها للخلق ، فلا حول ولا قوة إلا به. وبعزّته قهر الخلق كلهم ، وتصرف فيهم ، ودبرهم. وبحكمته خلق الخلق ، وابتدأه بالحكمة ، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة. وكذلك الأمر والنهي ، وجد بالحكمة ، وكانت غايته المقصودة ، الحكمة فهو الحكيم في خلقه وأمره.
[٢٨] ثمّ ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ