مهتدين ، بل ضالين مضلين.
[٢١] ولهذا قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على أيدي رسله ، فإنه الحقّ ، وبينت لهم أدلته الظاهرة (قالُوا) معارضين ذلك : (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد ، كائنا من كان. قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). فاستجاب له آباؤهم ، ومشوا خلفه ، وصاروا من تلاميذ الشيطان ، واستولت عليهم الحيرة. فهل هذا ، موجب لاتباعهم ومشيهم على طريقتهم ، أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم ، وينادي على ضلالهم ، وضلال من تبعهم. وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم ، محبة لهم ومودة ، وإنّما ذلك عداوة لهم ومكر لهم ، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه ، الّذين تمكن منهم ، وظفر بهم ، وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير ، بقبول دعوته.
[٢٢] (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي : يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في ذلك الإسلام بأن كان عمله مشروعا ، قد اتبع فيه الرسول. أو من يسلم وجهه إلى الله ، بفعل جميع العبادات ، وهو محسن فيها ، بأن يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراك. أو من يسلم وجهه إلى الله ، بالقيام بحقوقه ، وهو محسن إلى عباد الله ، قائم بحقوقهم. والمعاني متلازمة ، لا فرق بينها إلا من جهة اختلاف مورد اللفظين. وإلا فكلها منفعة على القيام بجميع شرائع الدين ، على وجه تقبل به وتكمل. فمن فعل ذلك ، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : بالعروة الّتي من تمسك بها ، توثق ونجا ، وسلم من الهلاك ، وفاز بكل خير. ومن لم يسلم وجهه لله ، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى ، وإذا لم يستمسك لم يكن ثمّ إلا الهلاك والبوار. (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي :
رجوعها ، وموئلها ، ومنتهاها. فيحكم في عباده ، ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم ، ووصلت إليه عواقبهم ، فليستعدوا لذلك الأمر.
[٢٣] (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) لأنك أديت ما عليك ، من الدعوة والبلاغ. فإذا لم يهتد ، فقد وجب أجرك على الله ، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه ، لأنه لو كان فيه خير ، لهداه الله. ولا تحزن أيضا ، على كونهم تجرؤوا عليك بالعداوة ، ونابذوك المحاربة ، واستمروا على غيهم وكفرهم ، ولا تتحرق عليهم ، بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب. إن (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من كفرهم وعداوتهم ، وسعيهم في إطفاء نور الله ، وأذى رسله. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الّتي ما نطق بها الناطقون ، فكيف بما ظهر ، وكان شهادة؟
[٢٤] (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) في الدنيا ، ليزداد إثمهم ، ويتوفر عذابهم. (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) أي : نلجئهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : انتهى في عظمه ، وكبره ، وفظاعته ، وألمه ، وشدته.
[٢٥] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي : سألت هؤلاء المشركين المكذبين بالحق. (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لعلموا أن أصنامهم ، ما خلقت شيئا من ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) الذي خلقهما وحده. (قُلِ) لهم ، ملزما لهم ، ومحتجا عليهم بما أقروا به ، على ما أنكروا. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي بيّن النور ، وأظهر الاستدلال عليكم من أنفسكم. فلو كانوا يعلمون ، لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير ، هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك أشركوا به غيره ، ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه ، على وجه الحيرة والشك ، لا على وجه البصيرة. ثمّ ذكر هاتين الآيتين ، نموذجا من سعة أوصاف الله سبحانه ، ليدعو عباده إلى معرفته ، ومحبته ، وإخلاص الدين له. فذكر عموم ملكه ، وأن جميع ما في السموات والأرض ـ وهذا شامل لجميع العالم العلوي والسفلي ـ أنه ملكه ، يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية ، وأحكامه الأمرية ، وأحكامه الجزائية. فكلهم عبيد مماليك ، مدبرون مسخرون ، ليس لهم من الملك شيء. وأنه واسع الغنى ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أحد من الخلق. (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧). وأن أعمال النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، لا تنفع الله شيئا وإنّما تنفع عامليها ، والله