الأموال ، ولا بالجنود والخدم ، ولا بالأولاد ، بل ولا بالنفوس والأرواح ، ولا يتقرب إليها بشيء أصلا ، سوى الإيمان والعمل الصالح.
[٢٠] (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : مقرهم ومحل خلودهم ، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء ، ولا يفتّر عنهم العقاب ساعة. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج ، لبلوغ العذاب منهم كل مبلغ ، ردوا إليها ، فذهب عنهم روح ذلك الفرج ، واشتد عليهم الكرب. (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فهذا عذاب النار ، الذي يكون فيه مقرهم ومأواهم.
[٢١] وأما العذاب الذي قبل ذلك ، ومقدمة له وهو عذاب البرزخ ، فقد ذكر بقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) إلى (يَرْجِعُونَ). أي : ولنذيقن الفاسقين المكذبين ، نموذجا من العذاب الأدنى ، وهو عذاب البرزخ ، فنذيقهم طرفا منه ، قبل أن يموتوا. إما بعذاب بالقتل ونحوه ، كما جرى لأهل بدر من المشركين. وإما عند الموت ، كما في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ثم يكمل لهم العذاب الأدنى في برزخهم. وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر ، ودلالتها ظاهرة ، فإنه قال : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي : بعض وجزء منه ، فدلّ على أن ثمّ عذابا أدنى قبل العذاب الأكبر ، وهو عذاب النار. ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا ، قد لا يتصل بها الموت ، أخبر تعالى ، أنه يذيقهم ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١).
[٢٢] أي : لا أحد أظلم ، وأزيد تعديا ، ممن ذكر بآيات ربه ، التي أوصلها إليه ربه ، الذي يريد تربيته ، وتكميل نعمته على أيدي رسله ، تأمره ، وتذكره بمصالحه الدينية والدنيوية ، وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية ، التي تقتضي أن تقابلها بالإيمان والتسليم ، والانقياد والشكر. فقابلها هذا الظالم بضد ما ينبغي ، فلم يؤمن بها ، ولا اتبعها ، بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره ، فهذا من أكبر المجرمين ، الذين يستحقون شديد النقمة. ولهذا قال : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).
[٢٣] لما ذكر تعالى ، آياته التي ذكر بها عباده ، وهو : القرآن ، الذي أنزله على محمد صلىاللهعليهوسلم ، ذكّر أنه ليس ببدع من الكتب ، ولا من جاء به ، بغريب من الرسل. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الذي هو التوراة المصدقة للقرآن ، والتي قد صدقها القرآن ، فتطابق حقهما ، وثبت برهانهما. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) لأنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته ، فلم يبق للشك والمرية محل. (وَجَعَلْناهُ) أي : الكتاب الذي آتيناه موسى (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يهتدون به في أصول دينهم ، وفروعه ، وشرائعه وموافقة لذلك الزمان ، في بني إسرائيل. وأما هذا القرآن الكريم ، فجعله الله هداية للناس كلهم ، لأنه هداية للخلق في أمر دينهم ودنياهم ، إلى يوم القيامة ، وذلك لكماله وعلوه (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤).
[٢٤] (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) أي : من بني إسرائيل (أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : علماء بالشرع ، وطرق الهداية ، مهتدين في أنفسهم يهدون غيرهم بذلك الهدى. فالكتاب الذي أنزل إليهم هدى ، والمؤمنون به منهم على قسمين : أئمة يهدون بأمر الله ، وأتباع مهتدون بهم. والقسم الأول ، أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة ، وهي درجة الصديقين. وإنما نالوا هذه الدرجة العالية (لَمَّا صَبَرُوا) على التعلم والتعليم ، والدعوة إلى الله ، والأذى في سبيله ، وكفوا نفوسهم عن جماحها في المعاصي ، واسترسالها في الشهوات. (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي : وصلوا في الإيمان بآيات الله ، إلى درجة اليقين ، وهو العلم التام ، الموجب للعمل. وإنما وصلوا إلى درجة اليقين ، لأنهم تعلموا تعلما صحيحا ، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين. فما زالوا يتعلمون المسائل ، ويستدلون عليها بكثرة