فتليت عليهم آيات القرآن ، وأتتهم النصائح على أيدي رسل الله ، ودعوا إلى التذكر ، سمعوها فقبلوها ، وانقادوا ، و (خَرُّوا سُجَّداً) أي : خاضعين لها ، خضوع ذكر لله ، وفرح بمعرفته. (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا بقلوبهم ، ولا بأبدانهم ، فيمتنعون من الانقياد لها بل متواضعون لها ، وقد تلقوها بالقبول ، وقابلوها بالانشراح والتسليم ، وتوصلوا بها إلى مرضاة الرب الرحيم ، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.
[١٦] (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي : ترتفع جنوبهم ، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم ، وهو : الصلاة في الليل ، ومناجاة الله تعالى. ولهذا قال : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أي : في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، ودفع مضارهما. (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : جامعين بين الوصفين ، خوفا أن ترد أعمالهم ، وطمعا في قبولها. خوفا من عذاب الله ، وطمعا في ثوابه. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الرزق ، قليلا أو كثيرا (يُنْفِقُونَ) ولم يذكر قيد النفقة ، ولا المنفق عليه ، ليدل على العموم. فإنه يدخل فيه ، النفقة الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، ونفقة الزوجات والأقارب ، والنفقة المستحبة في وجوه الخير ، والنفقة والإحسان المالي ، خير مطلقا ، سواء وافق فقيرا أو غنيا ، قريبا أو بعيدا ، ولكن الأجر يتفاوت ، بتفاوت النفع ، فهذا عملهم.
[١٧] وأما جزاؤهم ، فقال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) يدخل فيه جميع نفوس الخلق ، لكونه نكرة في سياق النفي. أي : فلا يعلم أحد (ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) من الخير الكثير ، والنعيم الغزير ، والفرح والسرور ، واللذة والحبور. كما قال تعالى على لسان رسوله : «أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». فكما صلوا في الليل ، ودعوا ، وأخفوا العمل ، جازاهم من جنس عملهم ، فأخفى أجرهم ، ولهذا قال : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
[١٨] ينبه تعالى ، العقول على ما تقرر فيها ، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين ، وأن حكمته تقضي عدم تساويهما فقال : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) قد عمّر قلبه الإيمان ، وانقادت جوارحه لشرائعه ، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته ، من ترك مساخط الله ، التي يضر وجودها بالإيمان. (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) قد خرب قلبه ، وتعطل من الإيمان ، فلم يكن فيه وازع ديني ، فأسرعت عنه جوارحه بموجبات الجهل والظلم ، في كل إثم ومعصية ، وخرج بفسقه عن طاعة ربه. أفيستوي هذان الشخصان؟ (لا يَسْتَوُونَ) عقلا وشرعا ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء ، والظلمة ، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة.
[١٩] و (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من فروض ونوافل (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أي : الجنات التي هي مأوى اللذات ، ومعدن الخيرات ، ومحل الأفراح ، ونعيم القلوب ، والنفوس ، والأرواح ، ومحل الخلود ، وجوار الملك المعبود ، والتمتع بقربه ، والنظر إلى وجهه ، وسماع خطابه. (نُزُلاً) لهم أي : ضيافة ، وقرى (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). فأعمالهم التي تفضل الله بها عليهم ، هي التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية ، التي لا يمكن التوصل إليها ببذل