بقياسهم قدرة الخالق ، على قدرهم. وكلامهم هذا ، ليس لطلب الحقيقة ، وإنما هو ظلم ، وعناد ، وكفر بلقاء ربهم وجحد ، ولهذا قال : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) فكلامهم على مصدره وغايته. وإلا ، فلو كان قصدهم بيان الحق ، لبيّن لهم من الأدلة القاطعة على ذلك ، ما يجعله مشاهدا للبصيرة ، بمنزلة الشمس للبصر. ويكفيهم علمهم أنهم قد ابتدئوا من العدم ، فالإعادة أسهل من الابتداء ، وكذلك الأرض الميتة ، ينزل الله عليها المطر ، فتحيا بعد موتها ، وينبت به متفرق بذورها.
[١١] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي : جعله الله وكيلا على قبض الأرواح ، وله أعوان. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بأعمالكم ، وقد أنكرتم البعث ، فانظروا ماذا يفعل الله بكم.
[١٢] لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة ، ذكر حالهم في مقامهم بين يديه ، فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) الذين أصروا على الذنوب العظيمة. (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خاشعين خاضعين أذلاء ، مقرين بجرمهم ، سائلين الرجعة قائلين : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي ؛ بان لنا الأمر ، ورأيناه عيانا ، فصار عين يقين. (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) أي : صار عندنا الآن ، يقين بما كنا نكذب به. أي لرأيت أمرا فظيعا ، وحالا مزعجة ، أقواما خاسرين ، وسؤالا غير مجاب ، لأنه قد مضى وقت الإمهال.
[١٣] وكل هذا بقضاء الله وقدره ، حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي ، فلهذا قال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي : لهدينا الناس كلهم ، وجمعناهم على الهدى. فمشيئتنا صالحة لذلك ، ولكن الحكمة ، تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى ، ولهذا قال : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي : وجب ، وثبت ثبوتا لا تغير فيه. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فهذا الوعد ، لا بد منه ، ولا محيد عنه. فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي.
[١٤] (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : يقال للمجرمين ، الذين ملكهم الذل ، وسألوا الرجعة إلى الدنيا ، ليستدركوا ما فاتهم : قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب ، فذوقوا العذاب الأليم ، بما نسيتم لقاء يومكم هذا. وهذا النسيان نسيان ترك ، أي : بما أعرضتم عنه ، وتركتم العمل له ، وكأنكم غير قادمين عليه ، ولا ملاقيه. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي : تركناكم بالعذاب ، جزاء من جنس عملكم ، فكما نسيتم نسيتم. (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي : العذاب غير المنقطع. فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية ، كان فيه بعض التنفيس والتخفيف. وأما عذاب جهنم ـ أعاذنا الله منه ـ فليس فيه روح راحة ، ولا انقطاع لعذابهم فيها. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والفسوق والمعاصي.
[١٥] لما ذكر الكافرين بآياته ، وما أعد لهم من العذاب ، ذكر المؤمنين بها ، ووصفهم ، وما أعد لهم من الثواب فقال : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) أي : إيمانا حقيقيا ، من يوجد منه شواهد الإيمان. وهم : (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها)