وأما الأسوة بغيره ، إذا خالفه ، فهو الأسوة السيئة ، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسّي بهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). وهذه الأسوة الحسنة ، إنّما يسلكها ويوفق لها ، من كان يرجو الله واليوم الآخر. فإن ما معه من الإيمان ، وخوف الله ، ورجاء ثوابه ، وخوف عقابه ، يحثه على التأسي بالرسول صلىاللهعليهوسلم.
[٢٢] لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف ، ذكر حال المؤمنين فقال : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الّذين تحزبوا ، ونزلوا منازلهم ، وانتهى الخوف. (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤). (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، فإنا رأينا ما أخبرنا به (وَما زادَهُمْ) ذلك الأمر (إِلَّا إِيماناً) في قلوبهم (وَتَسْلِيماً) في جوارحهم ، وانقيادا لأمر الله.
[٢٣] ولما ذكر أن المنافقين ، عاهدوا الله ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه. فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبّلوا نفوسهم في طاعته. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحقّ ، فقتل في سبيل الله ، أو مات مؤديا لحقه ، لم ينقصه شيئا. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد. (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) كما بدّل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون. فهؤلاء ، هم الرجال على الحقيقة ، ومن عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال.
[٢٤] (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي : بسبب صدقهم ، في أقوالهم ، وأحوالهم ، ومعاملتهم مع الله ، واستواء ظاهرهم وباطنهم ، قال الله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الآية. أي : قدرنا ما قدرنا ، من هذه الفتن ، والمحن ، والزلازل ، ليتبين الصادق من الكاذب. فيجزي الله الصادقين بصدقهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) الّذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم ، عند حلول الفتن ، ولم يفوا بما عاهدوا الله عليه. (إِنْ شاءَ) تعذيبهم ، بأن لم يشأ هدايتهم ، بل علم أنهم لا خير فيهم ، فلم يوفقهم. (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بأن يوفقهم للتوبة والإنابة. وهذا هو الغالب ، على كرم الكريم ، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة ، والفضل ، والإحسان فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لذنوب المسرفين على أنفسهم ، ولو أكثروا من العصيان ، إذا أتوا بالمتاب. [(رَحِيماً) بهم حيث وفقهم التوبة ، ثمّ قبلها منهم ، وستر عليهم ما اجترحوه] (١).
[٢٥] (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي : ردهم خائبين ، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حريصين عليه ، مغتاظين قادرين عليه جازمين ، بأن لهم الدائرة ، قد غرتهم جموعهم ، وأعجبوا بتحزبهم ، وفرحوا بعددهم
__________________
(١) ما بين المعكوفتين ساقط من المطبوعة الّتي بين أيدينا ، والنص موافق للسياق والله أعلم.