وفرادى ، كل واحد يخاطب نفسه بذلك. فإذا قمتم لله ، مثنى وفرادى ، استعملتم فكركم ، وأجلتموه ، وتدبرتم أحوال رسولكم : هل هو مجنون ، فيه صفات المجانين من كلامه ، وهيئته ، وصفته؟ أم هو نبي صادق ، منذر لكم ما يضركم ، مما أمامكم من العذاب الشديد؟ فلو قبلوا هذه الموعظة ، واستعملوها ، لتبين لهم أكثر من غيرهم ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ليس بمجنون ، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين ، في خنقهم ، واختلاجهم ، ونظرهم. بل هيئته أحسن الهيئات ، وحركاته أجلّ الحركات ، وهو أكمل الخلق ، أدبا ، وسكينة ، وتواضعا ، ووقارا ، لا يكون إلا لأرزن الرجال عقلا. ثمّ إذا تأملوا كلامه الفصيح ، ولفظه المليح ، وكلماته الّتي تملأ القلوب ، أمنا ، وإيمانا ، وتزكي النفوس ، وتطهر القلوب ، وتبعث على مكارم الأخلاق ، وتحث على محاسن الشيم ، وتزجر عن مساوئ الأخلاق ورذائلها. إذا تكلّم ، رمقته العيون ، هيبة وإجلالا ، وتعظيما. فهل هذا يشبه هذيان المجانين ، وعربدتهم ، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟ فكل من تدبر أحواله ؛ وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده ، أم معه غيره ، جزم بأنه رسول الله حقّا ، ونبيه صدقا ، خصوصا المخاطبين ، وهو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره.
[٤٧] وثمّ مانع للنفوس آخر ، عن اتباع الداعي ، إلى الحقّ ، وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له ، ويأخذ أجره على دعوته. فبيّن الله تعالى نزاهة رسوله عن هذا الأمر فقال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : على اتباعكم للحق (فَهُوَ لَكُمْ) أي : فأشهدكم أن ذلك الأجر ـ على التقدير ـ أنه لكم. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : محيط علمه مما أدعو إليه. فلو كنت كاذبا ، لأخذني بعقوبته. وشهيد أيضا على أعمالكم ، سيحفظها عليكم ، ثمّ يجازيكم بها.
[٤٨ ـ ٥٠] ولما بيّن البراهين الدالة على صحة الحقّ ، وبطلان الباطل ، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ؛ لأنه بيّن من الحقّ في هذا الموضع ، ورد به أقوال المكذبين ، ما كان عبرة للمعتبرين ، وآية للمتأملين. فإنك كما ترى ، كيف اضمحلت أقوال المكذبين ، وتبين كذبهم وعنادهم ، وظهر الحقّ وسطع ، وبطل الباطل وانقمع. وذلك بسبب بيان (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب ، من الوساوس والشبه ، ويعلم ما يقابل ذلك ، ويدفعه من الحجج. فيعلم بها عباده ، ويبينها لهم ، ولهذا قال : (قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : ظهر وبان ، وصار بمنزلة الشمس ، وظهر سلطانه ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي : اضمحل وبطل أمره ، وذهب سلطانه ، فلا يبدىء ولا يعيد. ولما تبين الحقّ بما دعا إليه الرسول ، وكان المكذبون له ، يرمونه بالضلال ، أخبرهم بالحق ، ووضحه لهم ، وبيّن لهم عجزهم عن مقاومته ، وأخبرهم أن رميهم له بالضلال ، ليس بضائر الحقّ شيئا ، ولا دافع ما جاء به. وأنه إن ضل ـ وحاشاه من ذلك ، لكن على سبيل التنزل في المجادلة ـ فإنما يضل على نفسه ، أي : ضلاله قاصر على نفسه ، غير متعد إلى غيره. (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) فليس ذلك من نفسي ، وحولي ، وقوتي ، وإنّما هدايتي بما (يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فهو مادة هدايتي ، كما هو مادة هداية غيري. إن ربي