[٣٨] لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين ، وذكر أعمال الفريقين ، أخبر عن سعة علمه تعالى ، واطلاعه على غيب السموات والأرض ، الّتي غابت عن أبصار الخلق ، وعن علمهم ، وأنه عالم بالسرائر ، وما تنطوي عليه الصدور ، من الخير والشر ، والزكاء وغيره ، فيعطي كلا ما يستحقه ، وينزل كلّ أحد منزلته.
[٣٩] يخبر تعالى عن كمال حكمته ، ورحمته بعباده ، أنه قدر بقضائه السابق ، أن يجعل بعضهم ، يخلف بعضا في الأرض ، ويرسل لكلّ أمة من الأمم النذر ، فينظر كيف يعملون ؛ فمن كفر بالله ، وبما جاءت به رسله ، فإن كفره عليه ، وعليه إثمه وعقوبته ، ولا يحمل عنه أحد ، ولا يزداد الكافر بكفره ، إلا مقت ربه له ، وبغضه إياه. وأي عقوبة ، أعظم من مقت الرب الكريم؟ (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي : يخسرون أنفسهم ، وأهليهم ، وأعمالهم ، ومنازلهم في الجنة. فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران ، والخزي عند الله وعند خلقه والحرمان.
[٤٠] يقول تعالى ، معجّزا لآلهة المشركين ، ومبينا نقصها ، وبطلان شركهم من جميع الوجوه. (قُلْ) يا أيها الرسول لهم : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أخبروني عنهم ، هل هم مستحقون للدعاء والعبادة. (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) هل خلقوا بحرا ، أم خلقوا جبالا ، أو خلقوا حيوانا ، أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الأشياء ، هو الله تعالى. (أَمْ لَهُمْ) أي : لشركائكم (شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي : مشاركة في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون : ليس لهم شركة في ذلك. فإذا لم يخلقوا شيئا ، ولم يشركوا الخلق في خلقه ، فلم عبدتموهم ، ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي ، على صحة عبادتهم ، ودلّ على بطلانها. ثمّ ذكر الدليل السمعي ، وأنه أيضا منتف ، فلهذا قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) يتكلم بما كانوا به يشركون ، يأمرهم بالشرك ، وعبادة الأوثان. (فَهُمْ) في شركهم (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي : من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟ ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن ، ولا جاءهم نذير قبل رسول الله ، محمد صلىاللهعليهوسلم. ولو قدر نزول كتاب إليهم ، وإرسال رسول إليهم ، وزعموا أنه أمرهم بشركهم ، فإنا نجزم بكذبهم ، لأن الله قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥). فالرسل والكتب ، كلها متفقة على الأمر بإخلاص الدين لله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ). فإن قيل : إذا كان الدليل العقلي ، والدليل النقلي ، قد دلّا على بطلان الشرك ، فما الذي حمل المشركين على الشرك ، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب تعالى بقوله : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي : ذلك الذي مشوا عليه ، ليس لهم فيه حجة ، وإنّما ذلك ، توصية بعضهم لبعض به ، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخر بالمتقدم الضال ، وأمانيّ منّاها الشياطين ، وزينت لهم سوء أعمالهم. فنشأت في قلوبهم ، وصارت صفة من صفاتها ، فعسر زوالها ، وتعسر انفصالها ، فحصل ما حصل ، من الإقامة على الكفر ، والشرك الباطل المضمحل.
[٤١] يخبر تعالى ، عن كمال قدرته ، وتمام رحمته ، وسعة حلمه ومغفرته ، وأنه تعالى ، يمسك السموات والأرض عن الزوال ، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق ، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما. ولكنه تعالى ، قضى أن يكونا كما وجدا ، ليحصل للخلق الاستقرار ، والنفع ، والاعتبار. وليعلموا من عظيم سلطانه ، وقوة قدرته ، ما به تمتلىء قلوبهم له إجلالا وتعظيما ، ومحبة ، وتكريما. وليعلموا كمال حلمه ومغفرته ، بإمهال المذنبين ، وعدم معاجلته للعاصين. مع أنه لو أمر السماء ، لحصبتهم ، ولو أذن للأرض ، لابتلعتهم. ولكن وسعتهم مغفرته ، وحلمه ، وكرمه (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) في تأخير عقاب الكفار ، (غَفُوراً) لمن تاب.
[٤٢ ـ ٤٣] أي : وأقسم هؤلاء ، الّذين كذبوك يا رسول الله ، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي : أهدى من اليهود والنصارى ، أهل الكتب ، فلم يفوا بتلك الأقسام