فطرني ، وخلقني ورزقني ، وإليه مآل جميع الخلق ، فيجازيهم بأعمالهم. فالذي بيده الخلق والرزق ، والحكم بين العباد ، في الدنيا والآخرة ، هو الذي يستحق أن يعبد ، ويثنى عليه ويمجد ، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا ، ولا عطاء ولا منعا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ولهذا قال :
[٢٣] (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه ، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا (وَلا يُنْقِذُونِ) من الضر الذي أراده الله بي.
[٢٤] (إِنِّي إِذاً) أي : إن عبدت آلهة هذا وصفها (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فجمع في هذا الكلام ، بين نصحهم ، والشهادة للرسل بالرسالة ، والاهتداء والإخبار بتعيّن عبادة الله وحده. وذكر الأدلة عليها ، وأن عبادة غيره باطلة ، وذكر البراهين عليها ، والإخبار بضلال من عبدها ، والإعلان بإيمانه جهرا ، مع خوفه الشديد من قتلهم فقال :
[٢٥] (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥) فقتله قومه ، لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.
[٢٦ ـ ٢٧] (قِيلَ) له في الحال (ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ) مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده ، وإخلاصه ، وناصحا لقومه بعد وفاته ، كما نصح لهم في حياته. (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي : بأي شيء غفر لي ، فأزال عني أنواع العقوبات. (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بأنواع المثوبات والمسرّات : أي : لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم ، لم يقيموا على شركهم.
[٢٨] قال الله في عقوبة قومه : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي : ما احتجنا أن نتكلف في عقوبتهم ، فننزل جندا من السماء لإتلافهم. (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) لعدم الحاجة إلى ذلك ، وعظمة اقتدار الله تعالى ، وشدة ضعف بني آدم ، وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب الله يكفيهم.
[٢٩] (إِنْ كانَتْ) أي : ما كانت عقوبتهم (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي : صوتا واحدا ، تكلم به بعض ملائكة الله (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم ، وانزعجوا لتلك الصيحة ، فأصبحوا خامدين ، لا صوت ولا حركة ، ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار ، ومقابلة أشرف الخلق ، بذلك الكلام القبيح ، وتجبرهم عليهم.
[٣٠] قال الله مترحما للعباد : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) أي : ما أعظم شقاءهم ، وأطول عنادهم ، وأشد جهلهم ، حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة ، الّتي هي سبب لكل شقاء ، وعذاب ، ونكال!!
[٣١ ـ ٣٢] يقول تعالى ألم ير هؤلاء ، ويعتبروا بمن قبلهم ، من القرون المكذبة ، الّتي أهلكها تعالى ، وأوقع بها عقابه ، وأن جميعهم قد باد وهلك ، فلم يرجع إلى الدنيا ، ولن يرجع إليها. وسيعيد الله الجميع. خلقا جديدا ، ويبعثهم بعد موتهم ، ويحضرون بين يديه تعالى ، ليحكم بينهم بحكمه العدل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).