ويزيد العلم ، من حيث يظن الجاهل ، أن زيادته ، بذلك الأقوال الّتي لا دليل عليها ، ولا حجة عليها ، ولا يحصل منها من الفائدة ، إلا تشويش الذهن ، واعتياد الأمور المشكوك فيها. والشاهد أن هذه القرية جعلها الله مثلا للمخاطبين. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) من الله تعالى يأمرونهم بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.
[١٤] (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي : قويناهما بثالث ، فصاروا ثلاثة رسل ، اعتناء من الله بهم ، وإقامة للحجة ، بتوالي الرسل إليهم. (فَقالُوا) لهم : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) فأجابوهم بالجواب ، الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل.
[١٥] (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : فما الذي فضلكم علينا ، وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لأممهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) أي : أنكروا عموم الرسالة. ثمّ أنكروا أيضا المخاطبين لهم فقالوا : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ).
[١٦] فقال هؤلاء الرسل الثلاثة : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فلو كنا كاذبين ، لأظهر الله خزينا ، ولبادرنا بالعقوبة.
[١٧] (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧) أي : البلاغ المبين الذي يحصل به ، توضيح الأمور المطلوب بيانها. وما عدا هذا من آيات الاقتراح ، أو من سرعة العذاب ، فليس إلينا. وإنّما وظيفتنا ، الّتي هي البلاغ المبين ، قمنا بها ، وبيناها لكم. فإن اهتديتم ، فهو حظكم وتوفيقكم ، وإن ضللتم ، فليس لنا من الأمر شيء.
[١٨] فقال أصحاب القرية لرسلهم : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي : لم نر على قدومكم علينا ، واتصالكم بنا ، إلا الشر. وهذا من أعجب العجائب ، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم الله بها على العباد ، وأجلّ كرامة يكرمهم بها ، وضرورته إليها فوق كلّ ضرورة ، قد قدم بحالة شر ، زادت على الشر الذي هم عليه ، واستشأموا بها. ولكن الخذلان ، وعدم التوفيق ، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه. ثمّ توعدوهم فقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي : لنقتلنكم رجما بالحجارة ، أشنع القتلات (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).
[١٩] فقال لهم رسلهم : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) وهو : ما معهم من الشرك والشر ، المقتضي لوقوع المكروه والنقمة ، وارتفاع المحبوب والنعمة. (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي : بسبب أنّا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم ، قلتم لنا ما قلتم. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) متجاوزون للحد ، متجرهمون (١) في قولكم. فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورا واستكبارا.
[٢٠] (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) حرصا على نصح قومه ، حين سمع ما دعت إليه الرسل ، وآمن به ، وعلم ما رد به قومه عليهم فقال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) فأمرهم باتباعهم ، ونصحهم على ذلك ، وشهد لهم بالرسالة.
[٢١] ثمّ ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه ، فقال : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أي : اتبعوا من نصحكم نصحا ، يعود عليكم بالخير ، وليس يريد منكم أموالكم ، وأجرا على نصحه لكم ، وإرشاده إياكم ، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه. بقي أن يقال : فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة ، ولكنه ليس على الحقّ. فدفع هذا الاحتراز بقوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه ، ولا ينهون إلا عمّا يشهد العقل الصحيح بقبحه.
[٢٢] فكأن قومه لم يقبلوا نصحه ، بل عادوا لائمين له ، على اتباع الرسل ، وإخلاص الدين لله وحده فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) أي : وما المانع لي ، من عبادة من هو المستحق للعبادة ؛ لأنه الذي
__________________
(١) وفي «القاموس» : «رجل جرهام ومجرهم بكسر الهاء : حادّ في أمره». كما في مادة (جرهم).