(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي : غلبني في القول ، فلم يزل بي ، حتى أدركها أو كاد.
[٢٤] فقال داود ـ لما سمع كلامه ـ ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما أن هذا هو الواقع ، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر ، فلا وجه للاعتراض بقوله القائل : «لم حكم داود ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر»؟ (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم. فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) لأن الظلم من صفة النفوس. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإن ما معهم من الإيمان والعلم الصالح ، يمنعهم من الظلم. (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). (وَظَنَّ داوُدُ) حين حكم بينهما (أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي : اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) لما صدر منه (وَخَرَّ راكِعاً) أي : ساجدا (وَأَنابَ) لله تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.
[٢٥] (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) الذي صدر منه ، وأكرمه الله بأنواع الكرامات فقال : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي : منزلة عالية ، وقربة منا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي : مرجع. وهذا الذنب الذي صدر من داود عليهالسلام ، لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره ، فالتعرض له من باب التكلف. وإنّما الفائدة ، ما قصه الله علينا ، من لطفه به ، وتوبته ، وإنابته ، وأنه ارتفع محله ، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
[٢٦] (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي : العدل. وهذا لا يتمكن منه ، إلا بعلم بالواجب ، وعلم بالواقع ، وقدرة على تنفيذ الحقّ. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فتميل مع أحد ، لقرابة ، أو صداقة ، أو محبة ، أو بغض للآخر (فَيُضِلَّكَ) الهوى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ويخرجك عن الصراط المستقيم. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) خصوصا المتعمدين منهم. (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) «أي : بغفلتهم عن يوم الجزاء». فلو ذكروه ، ووقع خوفه في قلوبهم ، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.
[٢٧] يخبر تعالى عن تمام حكمته ، في خلقه السموات والأرض ، وأنه لم يخلقهما باطلا ، أي : عبثا ولعبا ، من غير فائدة ولا مصلحة. (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بربهم ، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) فإنها الّتي تأخذ الحقّ منهم ، وتبلغ منهم كلّ مبلغ. وإنّما خلق الله السموات والأرض بالحق وللحق ، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته ، وسعة سلطانه ، وأنه تعالى وحده المعبود ، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات والأرض ، وأن البعث حق ، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر.
[٢٨] ولا يظن الجاهل بحكمة الله ، أن يسوي الله بينهما في حكمه ، ولهذا قال : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا.
[٢٩] (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) فيه خير كثير ، وعلم غزير. فيه كلّ هدى من ضلالة وشفاء من داء ، ونور يستضاء به في الظلمات. وفيه كلّ حكم يحتاج إليه المكلفون ، وفيه من الأدلة القطعية على كلّ مطلوب ، ما كان به أجل كتاب طرق العالم ، منذ أنشأه الله. (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي : هذه الحكمة من إنزاله ، ليتدبر الناس آياته ، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها. فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه ، وإعادة الفكر فيها