الشنيعة حين يحشرون ، أي : يجمعون. (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : أولهم على آخرهم ، ويتبع آخرهم أولهم ، ويساقون إليها سوقا عنيفا ، لا يستطيعون امتناعا ، ولا ينصرون أنفسهم ، ولا هم ينصرون.
[٢٠] (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي : حتى إذا وردوا على النار ، وأرادوا الإنكار ، أو أنكروا ما عملوه من المعاصي. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) عموم بعد خصوص. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يشهد عليهم كل عضو من أعضائهم. فكل عضو يقول : أنا فعلت كذا وكذا ، يوم كذا وكذا. وخص هذه الأعضاء الثلاثة ، لأن أكثر الذنوب إنّما تقع بها ، أو بسببها.
[٢١] فإذا شهدت عليهم ، عاتبوها (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) هذا دليل على أنّ الشهادة تقع من كل عضو كما ذكرنا : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) ونحن ندافع عنكن (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ). فليس في إمكاننا ، الامتناع عن الشهادة ، حين أنطقنا الذي لا يستعصي شيء عن مشيئته. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فكما خلقكم بذواتكم ، وأجسامكم ، خلق أيضا صفاتكم ، ومن ذلك الإنطاق. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة ، فيجزيكم بما عملتم. ويحتمل أن المراد بذلك ، الاستدلال على البعث بالخلق الأول ، كما هو طريقة القرآن.
[٢٢] (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي : وما كنتم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم ، ولا تحاذرون من ذلك. (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ) بإقدامكم على المعاصي (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فلذلك صدر منكم ما صدر. وهذا الظن ، صار سبب هلاكهم وشقائهم ولهذا قال :
[٢٣] (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) الظن السيّء ، حيث ظننتم به ، ما لا يليق بجلاله. (أَرْداكُمْ) أي : أهلككم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنفسهم ، وأهليهم ، وأديانهم بسبب الأعمال التي أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم. فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء ، ووجب عليكم الخلود الدائم في العذاب ، الذي لا يفتر عنهم ساعة.
[٢٤] (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) فلا جلد عليها ، ولا صبر. وكل حالة قدّر إمكان الصبر عليها ، فالنار لا يمكن الصبر عليها. وكيف الصبر على نار ، قد اشتد حرها ، وزادت على نار الدنيا ، بسبعين ضعفا ، وعظم غليان حميمها ، وزاد نتن صديدها ، وتضاعف برد زمهريرها وعظمت سلاسلها وأغلالها ، وكبرت مقامعها ، وغلظ خزّانها ، وزال ما في قلوبهم من رحمتهم. وختام ذلك سخط الجبار ، وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثون : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨). (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي : يطلبوا أن يزال عنهم العتب ، فيرجعوا إلى الدنيا ، ليستأنفوا العمل. (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) لأنه ذهب وقته ، وعمروا ، ما يعمر فيه من تذكر وجاءهم النذير. وانقطعت حجتهم ، مع أن استعتابهم ، كذب منهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).
[٢٥] (وَقَيَّضْنا لَهُمْ) أي : لهؤلاء الظالمين الجاحدين للحق (قُرَناءَ) من الشياطين كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣) أي : تزعجهم إلى المعاصي ، وتحثهم عليها. (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فالدنيا زخرفوها بأعينهم ، ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها المحرمة ، حتى افتتنوا ، فأقدموا على معاصي الله ، وسلكوا ما شاءوا من محاربة الله ورسوله والآخرة بعّدوها عليهم وأنسوهم ذكرها. وربما أوقعوا عليهم الشّبه ، بعدم