صلىاللهعليهوسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا ، وعزما ، وحزما وأكملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم. وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق. يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، إلا من ضل وكابر. فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله؟ ومن جرمه ومنتهى حمقه ، أن جعل إلهه الذي يعبده ، ويدعوه ، ويتقرب إليه ، صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كلّ على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه. فهل هذا ، إلّا من فعل السفهاء والمجانين؟ فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم محمد صلىاللهعليهوسلم؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون. وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى ، في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف ، والصنائع. فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطل كثير من مصالحهم ومنافعهم. وفيها دليل على أن نعمته الدينية ، خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨).
[٣٣] يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئا ، وأنه لو لا لطفه ورحمته بعباده ، الّتي لا يقدم عليها شيئا ، لوسّع الدنيا على الّذين كفروا ، توسيعا عظيما ، ولجعل : (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) أي : درجا من فضة. (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) إلى سطوحهم.
[٣٤ ـ ٣٥] (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) (٣٤) من فضة ، ولجعل لهم زخرفا ، أي : لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف ، وأعطاهم ما يشتهون. ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي ، بسبب حب الدنيا ، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم. وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ، منغصة ، مكدرة ، فانية ، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه. لأن نعيمها تام كامل من كل وجه ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون. فما أشد الفرق بين الدارين!!
[٣٦] يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ، لمن أعرض عن ذكره فقال : (وَمَنْ يَعْشُ) أي : يعرض ويصد (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) الذي هو القرآن العظيم ، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده. فمن قبلها ، فقد قبل خير المواهب ، وفاز بأعظم المطالب والرغائب. ومن أعرض عنها وردها ، فقد خاب وخسر خسارة ، لا يسعد بعدها أبدا ، وقيّض له الرحمن شيطانا مريدا ، يقارنه ، ويصاحبه ، ويعده ، ويمنيه ، ويؤزه إلى المعاصي أزا.
[٣٧] (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : الصراط المستقيم ، والدين القويم. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) بسبب تزيين الشيطان للباطل ، وتحسينه له ، وإعراضهم عن الحقّ ، فاجتمع هذا وهذا. فإن قيل : فهل لهذا من عذر ، من حيث إنه ظن أنه مهتد ، وليس كذلك؟ قيل : لا عذر لهذا وأمثاله ، الّذين مصدر جهلهم ، الإعراض عن ذكر الله ، مع تمكنهم من الاهتداء. فزهدوا في الهدى ، مع القدرة عليه ، ورغبوا في الباطل ، فالذنب ذنبهم ، والجرم جرمهم. فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر الله في الدنيا ، مع قرينه ، وهي الضلال والغيّ ، وانقلاب الحقائق. وأما حاله ، إذا جاء ربه في الآخرة ، فهو شر الأحوال ، وهو : الندم والتحسر ، والحزن الذي لا يجبر مصابه ، والتبرّي من قرينه ، ولهذا قال تعالى :
[٣٨] (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣٨). كما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩).
[٣٩] وقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) أي : ولا ينفعكم يوم القيامة ،