تواصوا بها ، ولقن بها بعضهم بعضا؟ فلا يستغرب ـ بسبب ذلك ـ اتفاقهم عليها : (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان ، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع ، كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ، وكذلك المؤمنون ، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه ، والسعي فيه بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم ، وتوقيرهم ، وخطابهم بالخطاب اللائق بهم.
[٥٤] يقول تعالى آمرا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) ، أي : لا تبال بهم ولا تؤاخذهم ، وأقبل على شأنك. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) في ذنبهم ، وإنما عليك البلاغ ، وقد أديت ما حملت ، وبلّغت ما أرسلت به.
[٥٥] (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) والتذكير نوعان : تذكير بما لم يعرف تفصيله ، مما عرف مجمله بالفطر والعقول ، فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره ، وكراهة الشر والزهد فيه ، وشرعه موافق لذلك ، فكل أمر ونهي من الشرع ، فهو من التذكير ، وتمام التذكير ، أن يذكر ما في المأمور ، من الخير والحسن والمصالح ، وما في المنهي عنه من المضار. والنوع الثاني من التذكير : تذكير بما هو معلوم للمؤمنين ، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول ، فيذكّرون بذلك ، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم ، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك ، وليحدث لهم نشاطا وهمة ، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين ، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة ، واتباع رضوان الله ، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (١١). وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير ، فهذا لا ينفع تذكيره ، بمنزلة الأرض السبخة الّتي لا يفيدها المطر شيئا ، وهؤلاء الصنف ، لو جاءتهم كلّ آية لا يؤمنوا بها حتى يروا العذاب الأليم.
[٥٦] هذه الغاية الّتي خلق الله الجن والإنس لها ، وبعث جميع الرسل يدعون إليها ، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته ، والإنابة إليه ، والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه. وذلك متوقف على معرفة الله تعالى ، فإن تمام العبادة ، متوقف على المعرفة بالله ، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه ، كانت عبادته أكمل ، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله ، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
[٥٧] (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) تعالى الله الغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه ، وإنما جميع الخلق فقراء إليه ، في جميع حوائجهم ومطالبهم ، الضرورية وغيرها ، ولهذا قال :
[٥٨] (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) ، أي : كثير الرزق ، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها. (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ، أي : الذي له القوة والقدرة كلها ، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة ، السفلية والعلوية ، وبها تصرف في الظواهر والبواطن ونفذت مشيئته في جميع البريات ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا يعجزه هارب ، ولا يخرج على سلطانه أحد ، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم. ومن قدرته وقوته أن يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى ، وعصفت بهم الرياح ، وابتلعتهم الطيور والسباع ، وتمزقوا