وهذا أيضا محال ، فإنه لا يتصور ، أن يوجد أحد نفسه. فإذا بطل هذان الأمران ، وبان استحالتهما ، تعين القسم الثالث وهو : أن الله هو الذي خلقهم. وإذا تعين ذلك ، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده ، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح ، إلا له تعالى.
[٣٦] وقوله : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهذا استفهام يدل على تقرير النفي ، أي : ما خلقوا السماوات والأرض ، فيكونوا شركاء لله ، وهذا أمر واضح جدا. (بَلْ) المكذبون (لا يُوقِنُونَ) ، أي : ليس عندهم يقين ، يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية.
[٣٧] (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧) ، أي : أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك ، فيعطوا من يشاءون ، ويمنعوا من يشاؤون؟ أي : فلذلك حجروا على الله ، أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله ، وهم أحقر ، وأذل من ذلك ، فليس في أيديهم لأنفسهم ، نفع ولا ضر ، ولا موت ولا حياة ، ولا نشور. (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) ، أي : المتسلطون على خلق الله وملكه ، بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك ، بل هم العاجزون الفقراء.
[٣٨] (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) ، أي : ألهم اطلاع على الغيب ، واستماع له بين الملأ ، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم؟ (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) المدعي لذلك (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، وأنّى له ذلك؟ والله تعالى عالم الغيب والشهادة ، فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه. وإذا كان محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو أفضل الرسل ، وأعلمهم وإمامهم ، وهو المخبر بما أخبر به ، من توحيد الله ، ووعيده ، وغير ذلك من أخباره الصادقة لا يعلم إلا ما علمه الله ، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال ، والغي والعناد. فأيّ المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصا والرسول صلىاللهعليهوسلم قد أقام من الأدلة والبراهين ، على ما أخبر به ، ما يوجب أن يكون ذلك عين اليقين ، وأكمل الصدق ، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة ، فضلا عن إقامة حجة.
[٣٩] وقوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) كما زعمتم (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد ، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين ، غاية أو دونه نهاية؟
[٤٠] (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) يا أيها الرسول (أَجْراً) على تبليغ الرسالة. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ). ليس الأمر كذلك ، بل أنت الحريص على تعليمهم ، تبرعا من غير شيء ، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة ، على قبول رسالتك ، والاستجابة لأمرك ودعوتك ، وتعطي المؤلفة قلوبهم ، ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم.
[٤١] (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١) ما كانوا يعلمونه من الغيوب ، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله ، فعارضوه ، وعاندوه بما عندهم من الغيب؟ وقد علم أنهم هم الأمة الأمية ، الجهال الضالون. ورسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره ، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحد من الخلق ، وهذا كله إلزام لهم ، بالطرق العقلية والنقلية ، على فساد قولهم ، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها ، وأسلمها من الاعتراض.
[٤٢] وقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ) بقدحهم فيك ، وفيما جئت به (كَيْداً) يبطلون به دينك ، ويفسدون به أمرك؟ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) ، أي : كيدهم في نحورهم ، ومضرته عائدة إليهم ، وقد فعل الله ذلك ـ ولله الحمد ـ فلم يبق الكفار من مقدورهم من المكر شيئا ، إلا فعلوه ، فنصر الله نبيه عليهم ، وأظهر دينه ، وخذلهم ، وانتصر عليهم.
[٤٣] (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) ، أي : ألهم إله يدعى ويرجى نفعه ، ويخاف من ضره ، غير الله تعالى؟ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فليس له شريك في الملك ، ولا شريك في الوحدانية والعبادة. وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله ، وهو بطلان عبادة ما سوى الله ، وبيان فسادها ، بتلك الأدلة القاطعة. وأن ما عليه المشركون هو الباطل ، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ، ويخلص له دعاء العبادة ، ودعاء المسألة ، هو الله المألوه المعبود ، كامل الأسماء والصفات ، كثير النعوت الحسنة ، والأفعال الجميلة ، ذو الجلال والإكرام ، والعز الذي لا يرام ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الكبير الحميد المجيد.
[٤٤] يقول تعالى في ذكر بيان أن المشركين المكذبين بالحق الواضح ، قد عتوا عن الحقّ ، وعسوا على الباطل ،