الأموات من قبورهم لموقف القيامة.
[٧] (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) ، أي : من الهول والفزع ، الذي وصل إلى قلوبهم ، فخضعت وذلت ، وخشعت لذلك أبصارهم. (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) ، وهي القبور ، (كَأَنَّهُمْ) من كثرتهم ، وروجان بعضهم ببعض (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) ، أي : مبثوث في الأرض ، متكاثر جدا.
[٨] (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) ، أي : مسرعين لإجابة نداء الداعي ، وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة فيلبون دعوته ويسرعون إلى إجابته. (يَقُولُ الْكافِرُونَ) الّذين قد حضر عذابهم : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ).
[٩] لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله ، وأن الآيات لا تنفع فيهم ، ولا تجدي عليهم شيئا ، أنذرهم وخوّفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل ، وكيف أهلكهم الله ، وأحلّ بهم عقابه. فذكر قوم نوح ، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام ، فدعاهم إلى توحيد الله ، وعبادته وحده لا شريك له ، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً). ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وطغيانا وقدحا في نبيهم ، ولهذا قال هنا : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ) لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل ، وأن ما جاء به نوح عليهالسلام جهل وضلال ، لا يصدر إلا من المجانين. وكذبوا في ذلك ، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا ، فإن ما جاء به هو الحقّ الثابت ، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة ، إلى الهدى والنور ، والرشد ، وما هم عليه جهل وضلال. وقوله : (وَازْدُجِرَ) ، أي : زجره قومه وعنفوه لما دعاهم إلى الله تعالى. فلم يكفهم ـ قبحهم الله ـ عدم الإيمان به ، ولا تكذيبهم إياه حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه ، وهكذا جميع أعداء الرسل ، هذه حالهم مع أنبيائهم.
[١٠] فعند ذلك دعا نوح ربه ، (أَنِّي مَغْلُوبٌ) لا قدرة لي على الانتصار منهم ، لأنه لم يؤمن من قومه إلا القليل النادر ، ولا قدرة لهم على مقاومة قومهم. (فَانْتَصِرْ) اللهم لي منهم ، وقال في الآية الأخرى : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآيات.
[١١] فأجاب الله سؤاله ، فانتصر له من قومه ، قال تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١) ، أي : كثير جدا متتابع ، ينزل.
[١٢] (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) فجعلت السماء ينزل منها من الماء شيء خارق للعادة ، وتفجرت الأرض كلها ، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه ، فضلا عن كونه منبعا للماء ، لأنه موضع النار. (فَالْتَقَى الْماءُ) ، أي : ماء السماء والأرض (عَلى أَمْرٍ) من الله له بذلك ، (قَدْ قُدِرَ) ، أي : قد كتبه الله في الأزل وقضاه ، عقوبة لهؤلاء الظالمين الطاغين.
[١٣] (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) ، أي : ونجينا عبدنا نوحا على السفينة ذات الألواح والدسر ، أي : المسامير الّتي قد سمرت بها ألواحها وشد بها أسرها.
[١٤] (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) ، أي : تجري بنوح ومن آمن معه ، ومن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله ، وحفظ منه لها عن الغرق ، ونظر وكلاءة منه تعالى ، وهو نعم الحافظ والوكيل. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) ، أي : فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام ، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا ، فصبر على دعوتهم ، واستمر على أمر الله ، فلم يرده عنه راد ، ولا صدّه عن ذلك صاد ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) الآية. ويحتمل أن المراد : إنا أهلكنا قوم نوح ، وفعلنا بهم ما فعلنا من العذاب والخزي ، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم ، وهذا متوجه على قراءة من قرأها بفتح الكاف.
[١٥] (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) أي : ولقد تركنا قصة نوح مع قومه ، آية يتذكر بها المتذكرون ، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد ، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها ، وأن أصل صنعتها تعليم من الله لرسوله نوح عليهالسلام ، ثمّ أبقى الله صنعتها وجنسها بين الناس ليدلك ذلك ، على رحمته بخلقه ، وعنايته ، وكمال قدرته ، وبديع صنعته. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ أي : فهل من متذكر للآيات ، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها ، فإنها في غاية البيان واليسر؟