ومثال الأوّل : قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (١) فإنّ ظاهر هذه الآية المباركة هو حرمة أكل المال بغير حق ، فلو نسبنا هذا الدليل إلى دليل آخر وهو قوله تعالى ( ... أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ـ إلى قوله ـ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ـ إلى قوله ـ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) (٢) فلو فهمنا من هذه الآية المباركة أن أكل مال الغير إذا كان أبا أو صديقا ليس من أكل المال بالباطل ، فإنّ هذا الدليل حينئذ يكون نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر ، فإنّ الحكم في الدليل الأول هو الحرمة وموضوعه أكل المال بالباطل ولمّا كان مفاد الدليل الثاني هو نفي عنوان الباطل عن الأكل من بيت الصديق فهذا يعني نفي موضوع الحرمة في الدليل الأول وبالتالي تكون فعلية الحرمة منتفية.
وتلاحظون أنّ النفي هنا حقيقي وليس نفيا تنزيليا مقتضيا لتضييق دائرة موضوع الحرمة كما هو الحال في الحكومة بل إنّ الأكل من بيت الصديق ليس من الأكل بالباطل حقيقة ، غايته أنّ النفي هنا تم بواسطة التعبّد الشرعي وهذا هو الفارق بينه وبين التخصّص.
فالورود والتخصّص يشتركان في أنّ الخروج عن الموضوع حقيقي إلاّ أنّ الخروج تخصصا لا يتم بواسطة التعبّد الشرعي وإنّما هو بواسطة العلم الخارجي وأمّا الورود فالخروج عن الموضوع يتم بواسطة التعبّد الشرعي.
فحينما يقول المولى يحرم سماع الغناء فإنّ هذه الحرمة لا تثبت للحداء
__________________
(١) سورة النساء آية ٢٩.
(٢) سورة النور آية ٦١.