الاجتهاد ، على معنى بذل الوسع بمزاولة موارد استعمالات العرب وممارسة كلمات الأقدمين من فصحائهم من الخطب والقصائد ومسافرة مواطنهم ومخالطة قبائلهم على حدّ ما كان يصنعه الأوّلون من أئمّة هذه الصناعات ، بل قد يحرم الاجتهاد بهذا المعنى إذا استلزم تعطيل الأحكام وتعويق أمر الاجتهاد والقضاء والإفتاء ، بل يكفي فيها الاعتماد على ما في الكتب المحرّرة لما تقدّم من أنّه المعهود من طريقة الأساطين قديما وحديثا ، وعليه ففي وجوب كون تلك المعرفة المستندة إلى مراجعة الكتب وغيرها بالغة حدّ الجزم وعدمه بالاكتفاء بالمعرفة الظنّية وجهان ، من أنّ القدر المتيقّن للاستنباط الّذي علم برضا الشارع به هو القصر على المعرفة الجزميّة ، وإنّ أساطين هذا الشأن لم يعهد منهم التزامهم بتحصيل الجزم بالمطالب المتعلّقة بهذه العلوم.
لكنّ الإنصاف : أنّ قول أهل اللغة في الغالب ولو بمعونة بعض القرائن الداخلة والخارجة ولا سيّما الصرفيّون ثمّ النحاة منهم ممّا يفيد الجزم بالمطلب في الغالب ، وما لا يحصل به الجزم من كلامهم ـ كما لو كان من الموارد الخلافيّة عندهم مع كون الاختلاف فيه عظيما ـ نادر ، ولم يعلم من سيرة العلماء الآخذين بكلامهم أنّهم يكتفون بالظنّ في مطالبهم خصوصا المطلق منه ، لجواز كون اعتمادهم على كلامهم اعتمادا على ما يغلب اتّفاقه من حصول الجزم.
فالوجه حينئذ أن يقال : إنّه في موضع إمكان حصول المعرفة الجزميّة ولو بمراجعة الكتب المتعدّدة من غير استلزامه لتعطيل الأحكام أو العسر والحرج المقطوع بنفيهما في الشرع يجب مراعاتها اقتصارا على القدر المتيقّن ، وفي غيره لا بدّ من الظنّ الاطمئناني والاعتماد النفساني ، سواء حصل بمراجعة كتاب واحد أو ما زاد عليه ، من غير أن يكون له حدّ معلوم (١) ولا عدد محدود ، ولعلّه إلى اعتبار هذا المعنى يشير وصف الاعتماد وغيره في عبارة المصنّف وغيره بقوله : « ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة ».
وأمّا ما عن كشف اللثام من قوله : « ولا يضرّ الافتقار في كثير من دقائق ذلك إلى الرجوع إلى الكتب المعتمدة في العلوم المذكورة ، ولكن لابدّ من التتّبع بحيث يحصل العلم العادي أو الظنّ بأحد طرفي ما يتردّد فيه ، ولا يقتصر على كتاب واحد أو كتابين كما ترى كثيرا من الفقهاء يقتصرون في المسألة اللغويّة على نحو الصحاح وحده ، والنحويّة على
__________________
(١) وفي الأصل : « معدوم » وهو سهو من قلمه الشريف ، والصواب ما أثبتناه في المتن.