أسبابا عمدتها المهارة والأعلميّة في العلوم الّتي هي من مبادئ الفقه ومباني الاجتهاد ، كعلم اصول الفقه والعلوم العربيّة من اللغة والنحو والصرف وعلمي الرجال والميزان ، فكلّما يتكامل الإنسان في هذه العلوم ولا سيّما اصول الفقه الّذي عليه مدار استنباط كلّيات الأحكام وجزئيّاتها يتزايد غالبا قوّة الاستنباط.
فالأعلميّة في هذه العلوم لها مدخليّة غالبا في الأعلميّة في الفقه بخلاف العلوم الّتي ليست من مبادئ الفقه وشرائط الاجتهاد كالطبّ والنجوم والهيئة والهندسة ، فإنّ الأعلميّة فيها لا مدخليّة لها في ازدياد قوّة الاستنباط والأعلميّة.
نعم هاهنا امور اخر قد يكون لها دخل في الأعلميّة في الفقه ـ كما نبّه عليه بعض الفضلاء ـ كقوّة الحفظ وكثرة الضبط وجودة الذهن وشدّة الذكاوة والفطانة وكثرة التأمّل والتدبّر وكثرة الاطّلاع والممارسة وسعة الباع في الفكر والتصرّف واعتدال السليقة واستقامة الذوق والمبالغة في التدقيق والتحقيق والتعميق وأقدميّة الاشتغال ومزيد الاستيناس.
ثمّ إنّ أحد المجتهدين إن كان أعلم في الفقه وفي جميع مبادئه أو في بعضها مع التساوي في الباقي فلا إشكال ، بل هذا أخصّ أفراد الأعلم الّذي يجب تقليده بعينه وأكملها ، كما أنّه لو كان أعلم في الفقه خاصّة مع التساوي في المبادئ كلّها لا إشكال أيضا في وجوب تقليده ، وإن كان أعلم في العلوم الاخر غير المبادئ مع التساوي في الفقه ومبادئه فلا إشكال في التخيير وعدم تأثير لهذه الأعلميّة في منع الرجوع إلى غير الأعلم.
والسرّ فيه عدم تأثير لهذه الأعلميّة في أقربيّة فتواه إلى الواقع الّتي هي مناط وجوب تقليد الأعلم.
وأمّا إذا كان أعلم في المبادئ جميعها أو بعضها مع التساوي في الفقه فهذا وإن بعد تحقّقه إلاّ أنّا نتكلّم في حكمه على فرض التحقّق ، فهل يجب تقليد الأعلم هنا كما لو كان أعلم في الفقه ، أو يتخيّر بينهما كما في الأعلم في غير المبادئ مع التساوي في الفقه؟
احتمالان بل قولان ، أو أقوال ، أقواها الثاني لانتفاء ما هو مناط وجوب تقليد الأعلم بالفرض وهو أقربيّة الفتوى إلى الواقع ، فيحكم العقل فيه بالتخيير لفرض انتفاء ما يمنعه من ذلك الحكم ، خلافا لكاشف اللثام وصاحب الإشارات لمصيرهما ـ على ما حكي ـ إلى وجوب الأخذ بقول الأعلم ، ووجهه غير واضح ، بل هو مع فرض المساواة في ملكة الاستنباط ممّا لا وجه له.