وقيل : بالثاني.
فعلى الأوّل يخرج الذهن عن قابليّة بقاء الظنّ فيه.
وعلى الثاني يفنى الذهن بالموت الّذي يفنى بسببه جميع القوى الحيوانيّة والقوى الإنسانيّة الّتي منها القوّة المدركة.
ألا ترى أنّ الهرم والشيب وارتفاع السنّ يوجب ضعف القوى والحواسّ الظاهرة والباطنة حتّى أنّه يبلغ حدّا يذهب معه بالسامعة والباصرة والمدركة وغيرها ، فيصير بحيث لا يبصر ولا يسمع ولا يدرك ولا يفهم شيئا كالطفل الغير المميّز ، كما نطق به قوله عزّ من قائل : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ).
ولا ريب أنّ ألم حالة النزع الّذي أشدّ من جميع الآلام يوجب اختلال العلوم والإدراكات ويزول الجميع بالموت بسبب فناء القوى الحيوانيّة والإنسانيّة الّتي منها الذهن.
ولعلّ هذا القول أقوى وأقرب بالاعتبار ، ونصّ عليه بعض أهل المعقول ونسب إلى المحقّقين أيضا ، فالظنّ ومحلّه ـ وهو الذهن بمعنى القوّة الدرّاكة ـ من الأعراض المشروطة بالحياة ، فدعوى بقائه مع فناء محلّه أو منشائه بعد الموت واهية لا ينبغي الإصغاء إليها.
وممّا يؤيّد ذلك أيضا أنّ الظنّ متقوّم بالقوّة المدركة وهي كسائر القوى متقوّمة بالحياة وهي متقوّمة بالأخلاط الأربعة ، ولذا قيل : ليس الموت إلاّ فناء الأخلاط الأربعة ولكلّ منها أثر في البدن ، مثل أنّ أثر الصفراء جودة الفهم وحسن الإدراك وسرعة الانتقال ، وأثر البلغم رداءة الفهم وسوء الإدراك وبطؤ الانتقال ، وأثر الدم الشهوة والغضب وغير ذلك ، فإذا كان للأخلاط مدخليّة في الإدراكات يلزم من فنائها الّذي هو الموت زوال آثارها الّتي هي الإدراكات الّتي منها الظنون.
وبالجملة العلوم والإدراكات وإن كانت من فعل الروح والنفس الناطقة إلاّ أنّ فاعليّته مشروطة بتعلّقه بالبدن وتوسّط القوى الإنسانيّة ، وإذا انقطع التعلّق وفنت القوى بالموت زالت العلوم والإدراكات كلّها ، وهل يتجدّد له بعد الموت علوم اخر وهو معنى انكشاف الواقع أو لا؟ الحقّ أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على وقوع الأوّل ولا على امتناعه والأصل عدمه ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو قلنا بالبدن المثالي في عالم البرزخ مطلقا ـ على معنى أنّ الروح بعد مفارقته هذا البدن يتعلّق في جميع حالاته إلى قيام الساعة ببدن آخر مثل هذا البدن ـ أو في الجملة ، كما يستفاد من الأخبار منها ما عن الكافي في الصحيح