المجتهدين المفتين من السلف إلى الخلف.
ويؤيّده أيضا ما بيّنّاه في مباحث التقليد من أنّ كلّما هو حكم فعليّ للمجتهد فهو حكم فعليّ للمقلّد ، وظاهر أنّ الحكم الفعلي للمجتهد بعد اختياره لأحد المتعارضين إنّما هو مؤدّى مختاره ، وأمّا مؤدّى المتعادل الآخر الّذي طرحه قد خرج عن كونه حكما فعليّا في حقّه.
وقضيّة ذلك أن لا يكون للمقلّد أيضا حكم فعليّ إلاّ مؤدّى مختاره ، ولا ينافيه كون نصب الطرق وطريقيّتها مشتركا بين المجتهد والمقلّد ، لأنّ الطرق المنصوبة طرق للمقلّد بواسطة فتوى المجتهد بمؤدّياتها لا أوّلا وبالذات ، ولذا لا يكلّف المقلّد بالرجوع إلى طريق المجتهد في غير محلّ التعارض وإن تصدّى لإثبات مقتضاه المجتهد ، فالأجود هو الإفتاء بمؤدّى المختار لا غير.
والعجب أنّ بعض المشايخ جعل ذلك احتمالا ولم يجزم به بل جعل المشهور أقوى ، حيث قال : « ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي فيفتي بما اختاره لأنّه حكم للمتحيّر ، ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي من أنّ حكمه وهو البناء على الحالة السابقة مشترك بينه وبين المقلّد ، لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك ، والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر لأنّه أخبر وأعرف به مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده فلا عبرة بنظر المقلّد ، وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويّين في معنى لفظ الرواية فالعبرة بتحيّر المجتهد لا بتحيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر ، والمسألة محتاجة إلى التأمّل وإن كان وجه المشهور أقوى » انتهى.
فما احتمله قدسسره جيّد ولا باعث على التأمّل وتقوية وجه المشهور.
نعم لو كان النظر في الأحكام المختصّة بالمقلّد كأحكام الحائض وغيرها ممّا لا يجري في حقّ المجتهد لم يبعد الإفتاء له بالتخيير ، لأنّ المجتهد لا داعي له إلى اختيار أحدهما والالتزام بمؤدّاه ليفتي بمؤدّى مختاره ، فيفتي له حينئذ بالتخيير ، ولكنّه ينبغي أن يخبره حينئذ بين مدلولي المتعادلين ليلتزم بأحدهما ، ووجب عليه حينئذ أن ينبّهه على عدم كون التخيير على الاستمرار ، ولعلّ كلام الجماعة أيضا في هذه الصورة لا مطلقا ، كما يشعر به ظاهر العنوان المتقدّم من وقوع التحيّر للمفتي من حيث إفتائه وعليه فلا كلام ، ومن هنا