ومن أمثلة الجهة الثانية : أنّ الاحتياط في مسألة الجهر ببسم الله في الصلاة الإخفاتيّة أو الإخفات به على القولين بوجوبهما الإتيان بها مرّتين ، وقد يكون ممّن لا يجد من الساتر الشرعي إلاّ ما لا يقدر على تطهيره ، فيجتمع عليه مع التكرار الأوّل في كلّ وقت مع ملاحظة الاحتياط بالصلاة عريانا والصلاة بهذا الساتر أربع صلوات ، وقد يكون مع ذلك ممّن عليه فائتة وحاضرة فيتضاعف العدد ، وقد يكون ما عليه من الفائتة أزيد من صلاة واحدة ، وقد يكون واحدة مردّدة بين الخمس على احتمال وجوب خمس صلوات أو ثلاث فيزيد على العدد ما يزيد بحسب ما عليه من العدد.
ومع هذا كلّه فكيف يقال : إنّ الشارع جعل الاحتياط ـ مع عدم انضباطه واستلزامه التعسّر المخلّ بالنظم ، بل التعذّر في كثير من صوره ـ مرجعا في امتثال أحكامه لعامّة المكلّفين الّذين منهم النسوان ومنهم الشبّاب ومنهم المرضى ومنهم ضعفاء العقول الّذين يضعف عليهم معرفة كيفيّة الاحتياط وموارده الجزئيّة ومتعارضاته وعلاج التعارض الواقع فيها.
لكن قد يستشكل في إفادة ذلك مع الإجماع المتقدّم عموم حجّية الظنّ في جميع الوقائع المشتبهة من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، بأنّ نفي الاحتياط بالإجماع والعسر لا يثبت إلاّ أنّه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها.
ويندفع العسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلاّ أو بعضا ، بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة لأنّها الأولى بالإهمال ، وإذا ساغ لدفع الحرج ترك الاحتياط في مقدار ما من المحتملات يندفع به العسر ، فيبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار ، لما تقرّر في مسألة الاحتياط من أنّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان بمحتملات الوجوب وقام الدليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم تسقط وجوب الاحتياط رأسا.
وملخّص ذلك : أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلمي الإجمالي وهو الاحتياط المطلق ، ومع تعذّره لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلمي الإجمالي في البعض والظنّي في الباقي كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا.
ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّية وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات وإلغائه في الموهومات كان الثاني هو المتعيّن.