وجود الشّيء منزلة عدمه كثير ، منه قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١) (١) [فينبغي] أي (٢) إذا كان قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب ، ينبغي [أن يقتصر من التّركيب على قدر الحاجة] حذرا (٣) عن اللّغو [فإن كان (٤)] المخاطب
______________________________________________________
(١) روي أنّ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لمّا التقى الجمعان يوم بدر ـ رمى بقبضة من الحصى إلى وجوه المشركين ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم شاهدت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينه فانهزموا فنزلت هذه الآية المباركة.
ووجه تنزيل الرّمي الصّادر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم منزلة عدمه : أنّ أثر ذلك الرّمي لمّا لم يكن ممّا يترتّب على فعل البشر عادة ، جعل الرّمي الصّادر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم صورة كأنّه غير صادر عنه حقيقة ، بل صدر عن الله تعالى ، وإثبات الرّمي له صلىاللهعليهوآلهوسلم من جهة النّظر إلى أنّه صدر منه صلىاللهعليهوآلهوسلم صورة ، فلا تناقض في الآية ، لأنّ النّفي باعتبار الحقيقة ، والإثبات باعتبار الصّورة.
فالمتحصّل من الجميع أنّ التّنزيل على ثلاثة أقسام :
الأوّل : تنزيل المخاطب العالم منزلة الجاهل كقولك لتارك الصّلاة : الصّلاة واجبة.
الثّاني : تنزيل العلم منزلة الجهل كقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا).
والثّالث : تنزيل وجود الشّيء منزلة عدمه كقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ).
(٢) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ الفاء في قوله : «فينبغي» للتّفريع ، أي إذا كان المخبر بخبره قاصدا إفادة المخاطب ، فيجب عليه «أن يقتصر من التّركيب على قدر الحاجة» وإلّا كان مخطئا بحسب الصّناعة ، فإنّ الزّيادة في الكلام لغو ، بل ربّما موجب لفوات المقصود ، قوله : «أي إذا كان ...» إشارة إلى أنّ الفاء في قوله : «ينبغي» جواب شرط محذوف.
(٣) علّة لقوله : «أن يقتصر» أي يقتصر المتكلّم على قدر الحاجة حذرا عن اللّغو الكائن في الكلام على تقدير الزّيادة ، ثمّ المراد من «قدر الحاجة» يحتمل أن يكون مقدار حاجة المخبر في إفادة الحكم ولازمه ويحتمل أن يكون مقدار حاجة المخاطب في استفادتهما.
(٤) تفصيل لما أجمله بقوله : «فينبغي أن يقتصر» بالبناء للفاعل أو المفعول.
__________________
(١) سورة الأنفال : ١٧.