جاء من القوم بعد لأي من الدهر من يدعو الناس إلى الجاهليّة الأولى ، وإلى حميّتها البائدة ، ولا بُقيا للحميّة بعد الحرائم (١) ، نهض يبشِّر عن مسيح مركّب من طبيعتين : إلهيّة وبشريّة ، ويحسب نفسه قد أبهر في تأليفه وأتى بأمر جديد ، فأخذ كالمتفلسف يتتعتع ويتلعثم ، ويحرِّف الكلم عن مواضعه ، ويؤوِّل الكتاب الكريم برأيه الضئيل ، ويتحكّم في الحديث بفكرته الخائرة ، ويرى النبيّ الأعظم من المبشِّرين بنصرانيّته الصحيحة التي ليست هي إلاّ الضلال المحض ، وهو مع ذلك مائن (٢) في نقله ، خائنٌ في حكايته ، غاشٌّ في نصحه ، مدلّس في كتابته ، مهاجم قدس صاحب الرسالة ، مجانب عن الحقّ والحقيقة ، كلّ ذلك باسم كتاب : حياة محمد.
ألا وهو الأستاذ إميل درمنغم.
إنَّ الرجل لمّا شاهد أنّ الإسلام علا هتافه اليوم ، ودوّخ أرجاء العالم صيته ، وأطلّت سماؤه على الأرض كلّها شرقاً وغرباً ، وشعّ نوره في كلّ طلل ووهد ، وعمّت أشعّته كلّ طارف وتليد ، وملأ الكون صراخ قومه بالثناء البالغ على الإسلام المقدّس ونبيّه الأقدس ، وكثر إعجابهم بكتابه السماوي ، وقانونه الاجتماعي ، وشرعه السوي ، وحكمه السياسي ، ودستوره الإصلاحي ، ومشعبه الحقّ المشعب.
عزّ عليه كما عزّ على سلفه الغوغاء أن يشاهد هذا السلطان العالمي العظيم ، وهذه السيطرة الباهرة ، وهذه الشرعة العادلة الجبّارة القاهرة للأكاسرة ، والتبابعة ، والقياصرة ، والفراعنة الحاكمة على آراء الأقباط ، والأقسّة ، وآباء الكنائس ، وزعماء البِيَع ومعتقداتهم.
عزّ عليه أن يرى في بيئته الغربيّة بزوغ الإسلام الشرقي ، وتنوّر أفكار المثقّفين من قومه بلمعات القرآن العربي المجيد ، وانتشار معارف الإسلام الخالدة في عواصم
__________________
(١) الحريمة : ما فات من كلّ مطموع فيه [مجمع الأمثال : ٣ / ١٩٢ رقم ٣٦٢٠]. (المؤلف)
(٢) المين : الكذب.