عيسى من أحسن الناس وجهاً ، وأحلاهم قدّا ، وأظرفهم طبعاً ومنطقاً ، وكان يجلس إلينا ويكتب عنّا أشعارنا ، وجميعنا يحبّه ويميل إليه ، وهو حينئذٍ صبيٌّ في الكتّاب ، فعشقه سعد الورّاق عشقاً مبرّحاً وأخذ يعمل فيه الأشعار ، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكّانه قوله :
اجعل فؤادي دواةً والمداد دَمي |
|
وهاكَ فابرِ عظامي موضعَ القَلمِ |
وصيِّرِ اللوحَ وجهي وامْحُهُ بيدٍ |
|
فإنّ ذلكَ برءٌ لي من السقَمِ |
ترى المعلّم لا يدري بمن كَلَفي |
|
وأنت أشهرُ في الصبيان من علَمِ |
ثمّ شاع بعشق الغلام في الرُّها خبره ، فلمّا كبر وشارف الائتلاف ، أحبّ الرهبنة وخاطب أباه وأمّه في ذلك ، وألحّ عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى دير زكي بنواحي الرقّة (١) وهو في نهاية حسنه ، فابتاعا له قلاّية (٢)) ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها ، فأقام الغلام فيها وضاقت على سعد الورّاق الدنيا بما رحبت ، وأغلق دكّانه ، وهجر إخوانه ، ولزم الدير مع الغلام ، وسعد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار ، فممّا عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شمّاساً (٣) :
يا حُمّةً (٤) عَلَتْ غصناً من البانِ |
|
كأنّ أطرافها أطرافُ ريحانِ |
قد قايسوا الشمسَ بالشمّاسِ فاعترفوا |
|
بأنّما الشمسُ والشمّاس سيّانِ |
فقل لعيسى بعيسى كم هراقَ دماً |
|
إنسانُ عينِك من عينٍ لإنسانِ |
ثمّ إنّ الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به ، ونهوهُ عنه وحرموه إن أدخله ، وتوعّدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل ، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك.
__________________
(١) الرقّة كلّ أرض منبسطة جانب الوادي يعلوها الماء وقت المد. ولا يظنّ أنّ الرقّة البلد الذي على شاطئ الفرات ، فإنّ الرُّها بين الموصل والشام. (المؤلف)
(٢) القلاّية : مسكن الأسقف.
(٣) كلمة سريانية معناها : الخادم. (المؤلف)
(٤) الحُمّة : السواد ، يريد بذلك شعر الرأس.