فلمّا رأى سعد امتناعه منه شقّ عليه ، وخضع للرهبان ورفق بهم ، ولم يجيبوه وقالوا : في هذا علينا إثم وعار ونخاف السلطان ، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في وجهه ، ولم يدعوا الغلام يكلّمه.
فاشتدّ وجده وازداد عشقه ، حتى صار إلى الجنون ، فخرق ثيابه ، وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار ، ولزم صحراء الدير ، وهو عريان يهيم ، ويعمل الأشعار ويبكي.
قال أبو بكر الصنوبريّ : ثمّ عبرت يوماً أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالساً في ظلّ الدير ، وهو عريان وقد طال شعره ، وتغيّرت خلقته ، فسلّمنا عليه ، وعذلناه وعتبناه ، فقال : دعاني من هذا الوسواس ، أتريان ذلك الطائر على هيكل؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك. فقلنا : نعم. فقال : أنا وحقِّكما يا أخويَّ أناشده منذ الغداة أن يسقط فأحمِّله رسالة إلى عيسى. ثمّ التفت إليَّ وقال : يا صنوبري معك ألواحك؟ قلت : نعم. قال : اكتب :
بدينِكِ يا حمامةَ ديرِ زَكّي |
|
وبالإنجيلِ عندَكِ والصليبِ |
قِفي وتحمّلي عنّي سلاماً |
|
إلى قمرٍ على غُصْنٍ رَطيبِ |
حَماهُ جماعةُ الرهبانِ عنّي |
|
فقلبي ما يَقِرُّ من الوجيبِ |
عليهِ مسوحُهُ (١) وأضاء فيها |
|
وكان البدرُ في حُلَل المغيبِ |
وقالوا رابنا إلمامُ سعدٍ |
|
ولا والله ما أنا بالمريبِ |
وقولي سعدُكَ المسكينُ يشكو |
|
لهيبَ جوىً أحرَّ من اللهيبِ |
فَصِلْهُ بنظرةٍ لكَ من بعيدٍ |
|
إذا ما كنتَ تمنعُ من قريبِ |
وإن أنا متُّ فاكتبْ حول قبري |
|
محبٌّ ماتَ من هجر الحبيبِ |
رقيبٌ واحدٌ تنغيصُ عيشٍ |
|
فكيف بمن له ألفا رقيبِ |
__________________
(١) المسوح : ما لبس من نسيج الشعر تقشّفاً وقهراً للبدن. جمع مِسح بكسر الميم. (المؤلف)