العصور الإسلاميّة عامّة ، أحدهما ابن الرومي ، والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء والأمراء وهاجي الناس جميعاً والقائل :
إنّي لأَفتحُ عيني حين أفتحُها |
|
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا |
وقد جمع المعرّي بينهما في بيت واحد ، وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه ، فقال
لو أنصفَ الدهرُ هجا أهلَهُ |
|
كأنَّه الروميُّ أو دعبلُ |
وليس للمؤرّخ الحديث أن يضيف اسماً جديداً إلى هذين الاسمين ، فإنّ العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوّة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة ، وكلاهما مع هذا نوع فذٌّ في الهجاء يظهر متى قُرن بالآخر.
فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب ... (لا يهمّنا ما ذكره في دعبل) (١).
أمّا ابن الرومي فلم يكن مطبوعاً على النفرة من الناس ، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب ، ولكنّه كان فنّاناً بارعاً أُوتي ملكة التصوير ، ولطف التخيّل والتوليد ، وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال ، فإذا قصد شخصاً أو شيئاً به جاء صوّب إليه (مصوّرته) الواعية ، فإذا ذلك الشخص أو ذلك الشيء صورةٌ مهيّأةٌ في الشعر تهجو نفسها بنفسها ، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدّبة ، فكلّ هجوه تصويرٌ مستحضرٌ لأشكاله ، أو لعبٌ بالمعاني على حساب من يستثيره.
وابن الرومي يسلب مهجوّه الفطنة والكياسة والعلم ، ويلصق به كلّ عيوب الحضارة التي يجمعها التبذّل والتهالك على اللذّات ، فإذا حذفت من هجوه كلّ
__________________
(١) ما بين القوسين للمؤلّف رحمة الله.