ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شرّ ما فيه ، ولم يبقَ منه إلاّ ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.
وكان لصاحبنا فنٌّ واحد من الهجاء ، لا ترتاب في أنَّه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجئه النقمة إليه ، ونعني به فنّ التصوير الهزليّ والعبث بالأشكال المضحكة والمناظر الفكاهيّة والمشابهات الدقيقة ، فهو مطبوعٌ على هذا كما يطبع المصوّر على نقل ما يراه ، وإعطاء التصوير حقّه من الإتقان والاختراع ، وما نراه كان يقع عنه في شعره ، ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته ، لكنّ هذا الفنّ أدخلُ في التصوير منه في الهجاء ، وهو حسنة وليس بسيّئة ، وقدرةٌ تُطلب وليس بخَلّة تُنبذ ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذِّبه وتهديه ماهراً فيه ، خبيراً بمغامزه وخوافيه ، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ، ويهين المهين ، ويهجو من يستهدف عرضه للهجاء ؛ لأنَّك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزليّة وأن يفتنّ في إدراك معانيها وتم ثيل مشابهاتها منعت ملكة فيه أن تنمو ، وأبيتَ على حاسّته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه ، أمّا إذا منعت الهجاء وبواعثه ، فإنّك تمنع خُلُقاً يستغنى عنه ، وميلاً لا بدّ له من التقويم.
ذلك هو فنُّ ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار ، فأمّا ما عدا ذلك من هجائه فهو مسوقٌ فيه لا سائق ، ومدافعٌ لا مهاجم ، ومستثارٌ عن عمد في بعض الأحيان لا مستثيرٌ ، وإنّك لتقرأ له قوله :
ما استبّ قطُّ اثنانِ إلاّ غلبا |
|
شرّهما نفساً وأمّا وأبا |
فلا تصدّق أنّ قائله هو ابن الروميّ هجّاء اللغة العربيّة وقاذف المهجوّين بكلّ نقيصة ، لكنّ الواقع هو هذا ، والواقع كذلك أنَّه كان يسكن إلى رشده أحياناً ، فيسأم الهجاء ويعافه ويودُّ الخلاص منه حتى لوكان مهجوّا معدوّا عليه،ويع تزم التوبة عن الهجاء مقسماً :