وإذا بفقير رثّ الهيئة جلس إليّ ، مما يلي كتفه الأيسر ، وقال : سلام عليك ، فرددت السلام عليه ، وكنت منشغلا بالذكر ، فقال لي : أنت مجاور هنا؟ قلت : نعم. قال : كم لك هنا؟ فوجدت عليه في نفسي ، وقلت : ما حملك على السؤال؟ ورجعت إلى ما كنت عليه من الذكر ، فسكت ، ثم قال : ما رأيت هاهنا من الآيات منذ أقامك الله؟ فانزعجت منه ، وقلت : أي آية أعجب من هذا البيت! لا يخلو من طائف في ليل ولا نهار مع ما الناس فيه من الاشتغال ، وكان الطواف إذ ذاك عاطما بالبيت ، فسكت ، وعدت على ما كنت عليه من الذكر ، ثم قال : أتعجب من الطائفين بالبيت ، إنما العجب ممن يطوف به البيت (١) ، فنهض قائما وانصرف عني في صورة المنزعج ، وقلت في نفسي : إن هذا الرجل أحمق ، سمع هذا القول مما تقدم فذكره على لساني ، فجلست متفكرا فيه ، وذهب ما كنت فيه من الذكر. فرفعت رأسي وإذا بالبيت يدور بالطائفين دورانا بأشد ما يكون من الدوران ، فقمت يومئذ باكيا مستغفرا ودخلت الطواف لأجل الرجل ، فلم أجد له خبرا.
وروي عن بعض الأخيار : أنه كان في الطواف ، وإذا بصبي قد أقبل واستلم الحجر يطوف ، فلما حاذى البيت أرخى البيت رأسه وقبّل رأس الصبي ، فعجب من ذلك! وقال لي : منذ سنين أكثر الطواف بك ولم تفعل بي ذلك ، فقالت الكعبة : هذا من أولادي أو كما قيل.
والحاصل : أن فضلهم عظيم ، وقد تقدم منه كثير في فضل الحرم بمكة وغيرها.
__________________
(١) هذه من عبارات أهل الإشارة ومصطلحاتهم في التعبير عن الحب الإلهي ، وقد شدد النكير ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية على مثل هذا القول : «وكذا من يقول : بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا فهلّا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث أحصر عنها ، وهو يود منها نظرة ...». ص ٥١٣.