وأما دار الجحيم فهي بوجه من الآخرة : وبوجه آخر من الدنيا ، فإنها من حيث تجدد ما فيها وتوارد الآلام والمحن على أهلها وذوبان جلودهم وتبديلها وتعاقب الكون والفساد عليها من الدنيا ، ومن حيث خلودها ودوام العذاب فيها لأهلها هي من الآخرة.
وبالجملة فكل ما كونها الأمر القديم كان باقيا ببقاء الله ، وما كونه بالوسائط كان حادثا ناشئا في عالم الخلق وسمي عالم الخلق خلقا لأنه أوجده الله تعالى بالوسائط من شيء كما في قوله (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فكلما كان مخلوقا بالوسائط كان قابلا للفناء وإنما خلقه للفناء لكونه وسيلة إلى غيره. والروح الإنساني وإن كان مكونا مع الخلق ولكنه ليس مكونا بالخلق ولا مخلوقا من شيء فإن النفس حادثة مع البدن لا بالبدن بل بأمر الله وتكوينه.
وقد بينا في بعض كتبنا المبسوطة تحقيق حدوث النفس الإنسانية المجردة بما لا مزيد عليه ، من أن حدوثها بما هي جوهر مفارق ليس مسبوقا بالمادة ، وإلا لم يكن بقاؤها بعد المادة ، بل البدن شرط تعلقها وتدبيرها وتصرفها ، ولهذا يزول التعلق والتدبير والتصرف بزوال البدن. ومن هنا يتبين أن قوله تعالى (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) إنما هو لتعريف الروح ، عني به أنه جوهر بسيط من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء ولهذا عبر عنها بالكلمة في قوله (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وأنه ليس للاستبهام كما ظنه جماعة ، من أن الله أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه ، حتى قالوا لفرط جهلهم بمنصب النبوة : إن النبي صلىاللهعليهوآله لم يكن عالما به ، جل منصب حبيب الله أن يكون جاهلا بالروح ، مع أنه عالم بالله ، وقد من الله عليه لقوله (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).
وأما سكوته عن جواب السؤال عن الروح وتوقفه انتظارا للوحي حين سألته اليهود ، فقد كان لغموضه ، فرأى في معنى الجواب دقة لا يفهمها اليهود ، لبلادة طبائعهم ، وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم ، فإن المدرك لا يدرك شيئا ليس من جنسه ، فالحس لا يدرك غير المحسوسات ، والخيال